Awate.com

إرتريا والسودان وإثيوبيا – وقضايا السلام والديمقراطية

إن الإخفاق في بسط العدالة والمساواة وحرية التنظيم والتعبير وكل ما يرتبط بالحقوق الديمقراطية والحريات العامة في دول القرن الأفريقي، هو الذي يعوق شعوبها بصفة عامة وشعبنا الإرتري على وجه الخصوص عن أخذ طريق التقدم. فمع وجود هذه المعوقات يستحيل عليها جميعًا أن تتحرر من الفقر والتخلف اللذين ترزح تحتهما وتحقق نموًّا اقتصاديًّا يجعلها تعتمد على نفسها.

إن التاريخ القريب للشعوب المتقدمة يؤكد بأنها كانت تعاني من التخلف، وأن تخلصها منه إنما جاء نتيجة نضالات طويلة وتضحيات دفعتها أجيال متعاقبة. وبأن تلك النضالات والتضحيات من أجل حياة أفضل هي التي مهدت الطريق لتحقيق ما تتمتع به اليوم من سلام ورفاهية. وإذا كان ثمة ما نستخلصه من كل هذا هو أن ما يمر به شعبنا تحت حكم “هقدف” الفاسد، لا يمكن أن يستمر للأبد، كما لم تستمر أنظمة مشابهة. فلم يستمر حكم الأباطرة الإثيوبيين الذين اضطهدوا شعبنا كما اضطهدوا شعبهم نفسه لقرون طويلة، وكذلك لم يستمر حكم “الدرق” الفاشي الذي سار على أثرهم. لقد حاقت بهم جميعًا الهزيمة فتحولت إثيوبيا في السنوات التسع عشرة الماضية نحو الأفضل وصارت تخطو خطوات راسخة في طريق التقدم.

إن الانتخابات التي جرت في كل من السودان وإثيوبيا وبشكل منتظم في السنوات الماضية وكانت آخرها هذا العام، لدليل على أن السلام والديمقراطية يترسخان فيهما يومًا بعد يوم.

حينما نتناول موضوع الانتخابات، فمن الضروري التمييز بين الانتخابات الحرة والنزيهة وتلك المقيدة والمزورة ، ومن هنا يجب إجراء انتخابات لا تشوبها شائبة ثم الالتزام بقرار الشعب، أي بما تسفر عنه صناديق الاقتراع أيًّا كانت.

إن ما دفعنا لاستعراض مسألة الانتخابات هو أن النظام الديكتاتوري في بلادنا والذي يعاني من العزلة التامة، لا يُستبعد أن يلجأ إلى انتخابات صورية في سبيل الخروج من العزلة التي يعيشها وتحسين صورته من ناحية، والحفاظ على سلطته من ناحية أخرى، متوهمًا بأن سيخدع بها الشعب. ولا يستبعد أن يجد النظام عملاء في بعض الانتهازيين الذين يلهثون وراء مصالحهم الشخصية، فيسخرهم لترويج بضاعته الفاسدة، وكأنه قد عاد إلى رشده واختار الاحتكام إلى الشعب وتبنى النظام الديمقراطي. ولكن وحتى إذا حاول عملاؤه أن يظهروا بذلك المظهر فلن يستطيعوا أبدًا انتشاله من الوحل الذي سقط فيه، ولن يعدو ما يمكنه أن يقوم به عن مسرحية هزيلة ورديئة الإخراج. ومع ذلك يجب على شعبنا ومنذ الآن أن يعي كل ذلك ولا يقع في الشرك الذي ربما ينصبه له النظام الديكتاتوري. ومن جهة أخرى، فإن الانتخابات التي تجري في حالات التحول السلمي للنظام الديمقراطي والتي تفترض أن تشارك فيها الغالبية الساحقة من الشعب هي نهاية للعملية الانتقالية ، ولا يمكن اعتبارها منفردة مقياسًا للديمقراطية. وبعبارة أخرى فإن إجراء الانتخابات لا يعني بالضرورة تحقيق النظام الديمقراطي على أرض الواقع، إذ لا يمكن للانتخابات منفردة أن تعبر  عن محتوى الديمقراطية بالكامل، لأنه وقبل البلوغ إلى ذلك الهدف هناك شرط يجب تحقيقه وهو بسط الحريات العامة.

ومن هنا، وحينما تتفحص الانتخابات التي تجري في البلدين المجاورين، السودان وإثيوبيا، بانتظام والمنافسة الديمقراطية التي تصاحبها بين الأحزاب المختلفة التي تشارك فيها، وما تبعها من تداول للسسلطة والمقيدة بالقوانين والمواثيق الدولية والتي قبلت بها الأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية كافة. وحينما تعود لقراءة الواقع السياسي في كل من السودان وإثيوبيا وما يتمتع به شعبيهما من حريات وكفالة ممارسة العمل السياسي للقوى المعارضة بما فيها إصدار الصحف المعبرة عن وجهة نظرها وتنظيم المظاهرات وعقد الندوات التثقيفية والتعبوية، ومع ذلك فلا يعني هذا بأن الممارسة السياسية في البلدين نموذجيه، بل أردنا التأكيد بأن فيهما مساحة معقولة من الديمقراطية في ظروف التطور السياسي والاقتصادي التي يمر بها كل من البلدين، وهي لا محالة تفتح آفاقًا في مجال تنمية الثقافة الديمقراطية فيها.

في شهر مايو المنصرم جرت في كلا البلدين انتخابات تشريعية كانت مثارًا للإعجاب، وهي ولا شك خطوة متقدمة في الممارسة الديمقراطية. ويجب أن تكون حافزًا لنا في نضالنا الدؤوب للتخلص من النظام الديكتاتوري في بلادنا وإقامة نظام ديمقراطي بديل. ولكن إعجابنا بالانتخابات التي جرت في البلدين لا يعني أنها كانت بلا شوائب، ولكنها ومقارنة بالانتخابات الصورية التي تجري في كثير من بلدان قارتنا وانتفائها بالكامل في بلادنا، تستحق بالفعل الثناء.  وللحقيقة، فقد كنا نحن الإرتريين سباقين في خوض الانتخابات التعددية، ولكن تراجعنا للوراء بفعل الاستعمار الإثيوبي ونظام إسياس الديكتاتوري. وتناضل اليوم قوى المعارضة الإرترية لاسقاط النظام الديكتاتوري حتى يمسك شعبنا بزمام مصيره وينتخب بإرادته الحرة ممثليه في ظل نظام ديمقراطي تعددي.

وثمة حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي أن إرتريا ذات حدود مشتركة مع البلدين إثيوبيا والسودان، وثمة روابط عرقية وثقافية بين شعبها وشعبي البلدين، لذا فمن الطبيعي أن يكون لما يجري في البلدين الجارين انعكاسات في بلادنا. ولذلك فلا بد أن الانتخابات التي جرت فيهما قد جعلت شعبنا يتفحص وضعه الذي لا يسمح له فيه لأن يكون له رأي فيما يجري في بلاده بينما تُعقد لجيرانه الانتخابات حتى يدلو بأصواتهم بحرية تامة ويحددوا من هم الأصلح في رأيهم لإدارة شؤونهم. وخشية من “عدوى الديمقراطية” حجب نظام إسياس أخبارها عن مشاهدي تلفزيونه، وبالطبع لم تتطرق إذاعته الوحيدة لتلك الانتخابات من قريب أو بعيد. ولكن ولأن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة فلا يمكن أن تكون أجهزة إعلام النظام هي المصدر الوحيد للمعلومات لشعبنا. ولا شك أنه، وكما أسلفنا، قد تابع شعبنا تلك الانتخابات وهو يتطلع لأن يرى عمّا قريب نهاية الديكتاتورية وسطوع شمس الديمقراطية في بلاده.

ولو نظرنا للانتخابات التي جرت في إثيوبيا عن قرب، نلاحظ أنها قد حظيت على إقبال جماهيري كبير، فقد وقف الناخبون في صفوف طويلة منذ الصباح الباكر، ولم يتوقف طوال ساعات النهار تدفق الجماهير لمراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم دون أن يتعرضوا لإكراه أو ضغوط من أيٍّ كان بل وبإرادتهم الحرة. وقد اعتبر المراقبون لتلك الانتخابات بأنها بالفعل ميلاد جديد للشعب الإثيوبي بعد قرون طويلة من الظلم والاضطهاد. وكم نتمنى ونطمح في أن تتحقق الديمقراطية في بلادنا أيضًا وقريبًا بفضل نضالات شعبنا وطلائعه قوى المعارضة الإرترية، في الوقت الذي تتقدم فيه بتهانينا للشعبين الشقيقين في السودان وإثيوبيا لما حققاه في مضمار التحول الديمقراطي.

أنه لمن المؤلم حقًّا أن تظل بلادنا متخلفة عن جيراننا في مجال إرساء مبادئ الديقمراطية والعدالة والمساواة، وهي التي ناضل شعبنا ثلاثين عامًا وضحّى بالكثير من أجل تحقيقها.

لو عدنا إلى أربعينيات القرن الماضي واطلعنا على نضالات شعبنا، نجد كيف أن الأحزاب المطالبة بالاستقلال قد تحالفت فيما بينها وأنشأت مظلة تُوحِّد من خلالها جهودها وهي “الكتلة الاستقلالية”! حيث تكونت هذه الكتلة من الأحزاب المطالبة للإستقلال والمعارضة للتقسيم أو ضم إرتريا لإثيوبيا، وكيف أن هذا التكتل كان يناضل في سبيل تأكيد الهوية الوطنية الإرترية. ولا يمكن أن يغيب عن ذاكرتنا ما قام به الآباء من أجل الحفاظ على روابط الأخوة الإسلامية المسيحية وضحوا بأرواحهم وممتلكاتهم في سبيل تحقيق استقلال وطنهم ووحدته.  حقًّا لقد أورثونا ثقافة المقاومة والتضحية من أجل الوطن وكرامة المواطن، ويحفظ لهم التاريخ في سجل نضالاتهم وتضحياتهم الكبيرة التي اختطت لنا طريق النضال.

لم يقبل الآباء بالحل الفيدرالي مع إثيوبيا الإمبراطورية عن قناعة، بل من أجل الإبقاء على إرتريا موحدة و إفشال مخطط تقسيمها بين السودان وإثيوبيا حسب مشروع بيفين – سفوزا الذي كان يقضي بضم المنخفضات الإرترية ذات الأغلبية المسلمة إلى السودان والمرتفعات ذات الأغلبية المسيحية إلى إثيوبيا. وفي الظروف التي كانت تحيط بالبلاد بجانب المؤامرات الخارجية، ما كان بمقدورهم إلا أن يقبلوا الحل الفيدرالي والذي اعتبر حلاًّ وسطًا، وتركوا للأجيال التالية تحقيق ما حلموا به ولم يستطيعوا تحقيقه ألا وهو الاستقلال الوطني وحفظت الأجيال التالية وصاياهم فتأسست حركة تحرير إرتريا ثم تلتها جبهة التحرير الإرترية التي أعلنت الكفاح المسلح. وبعد ثلاثين عامًا من النضال المرير والتضحيات الجسيمة تحقق حلم الاستقلال. ولكن النظام الديكتاتوري لإسياس أفورقي قد اغتصب لنفسه ثمرة نضال شعبنا وأقام دولة بوليسية لقمع الشعب  ربما بأقسى مما كان يفعل المستعمرون الذين توالوا على بلادنا.

وانطلاقًا من الوضع المأسوي الذي يعيشه وطننا، نتوجه بنداء باسم الآباء الذين تركوا لنا الأمانة والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الوطن وباسم كل أولئك الذين ما يزالون يقارعون الطغيان ويناضلون في سبيل غدٍ افضل لشعبنا دون كلل أو ملل، نتوجه بالنداء لأبناء شعبنا حتى يلتحقوا بالركب ويشاركوا إخوانهم في تخليص الوطن من هذا النظام الذي حوّل حياة شعبنا إلى جحيم لا تطاق. إن النظام الديكتاتوري القائم في إرتريا وبسبب سلوكه تجاه أبناء وطنه وإثارته للقلاقل في المنطقة هو نظام معزول محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ولهذا فإن المؤشرات تدل على وهن النظام، وعلينا إذًا أن نكثف جهودنا وضرباتنا ولا نجعله يلتقط أنفاسه حتى يصل إلى نهايته ونحقق لشعبنا الديمقراطية والسلام والأمان التي حرمه منها النظام الديكتاتوري.

في السابع والعشرين من مايو المنصرم عُقد في مقر البرلمان السوداني حفل تنصيب رئيس السودان المنتخب حضره عدد من القادة وممثلي الدول من العالم وأفريقيا والعالم العربي، فضلاً عن السفراء المعتمدين لدى السودان. وقد بثت القنوات التلفزيونية حديث العديد من الضيوف الذين أشادوا بالانتخابات التي جرت في السودان . وقد حضر حفل التنصيب إسياس أفورقي أيضًا، ترى ماذا كان سيقول لو كان قد دُعي للمنصة لإلقاء كلمة ؟ وهو تساؤل أعتقد أنه يدور في ذهن كل إرتري!

أعتقد أن دلالات هذه المناسبة وانعكاساتها لا تقف عند حدود منطقتنا بل يمتد صداها إلى ما وراء المنطقة.

لاشك أن إجراء انتخابات تعددية نزيهة يشارك فيها الشعب بكل فئاته ويستلم فيها السلطة من وضع فيه الشعب ثقته عبر صناديق الاقتراع، هو الأسلوب الديمقراطي الذي يقود إلى طريق السلام والتقدم. وعلى العكس من ذلك فإن السلطة غير المنتخبة والتي تفرض نفسها على شعبها لا يمكنها أن تكون صانعة للسلام والتقدم بل وفي معظم الأحوال تكون مثيرة للتوترات والحروب وتعكير السلم والأمن في بلادها ومنطقتها. والنظام الذي فرض نفسه على إرتريا دون أن ينتخبه أحد ولا يخضع للمحاسبة هو بالفعل الذي يثير القلاقل والحروب في منطقتها ويتدخل في شؤون جنوب السودان ودارفور وشرق السودان ثم في الصومال وجيبوتي وشؤون دول أخرى في المنطقة. إن تجربة التسعة عشر عامًا الماضية، وهي عمر النظام الإرتري، تؤكد ذلك. هذه السلطة النرجسية التي لا تعرف إلا تمجيد ذاتها وتقلل من شأن الآخرين وترفض الاستفادة من تجاربهم مدعية إحاطتها بكل شيء وعليمة بكل الأمور.  لا تؤمن بالديمقراطية ولا يضيق رأس السلطة سماعها بل ينزعج ويفقد توازنه عندما يثيرها الصحفيون في لقاءاتهم معه. فالنظام لا يسمح بقيام تنظيمات سياسية ولا يعترف حتى بوجود تنظيمات معارضة له على الرغم من أن كل العالم يعرف ذلك!!

عجيب أمر أولئك الذي يدّعون بأن لديهم مبادرة من أجل إحلال السلام بين إرتريا وجارتها إثيوبيا، وبين المعارضة الإرترية ونظام إسياس، على الرغم من علمهم علم اليقين بأن النظام في أسمرا ليس في وارد عقد صلح مع جيرانه وهو المنهمك على العكس في إشعال مزيد من الحرائق في المنطقة، أما عن المعارضة، فهو ناهيك عن الجلوس معها والحديث عما يصلح ويفيد البلاد، فهو لا يعترف حتى بحقيقة وجودها، كما أوضحنا آنفًا.

في الختام، فإن التطورات السياسية الجارية في محيطنا تدعم توجه شعبنا وإيمانه الراسخ في تحقيق العدالة والمساواة والديمقراطية والسلام والتقدم، وأن تحقيق هذه المبادئ على أرض الواقع هي التي توطد وحدته وتعزز ثقة وتضامن مختلف مكوناته بعضها ببعض.

Shares

Related Posts

Archives

Cartoons

Shares