ارتريا : نحو الاصلاح السياسي أم تجراي الكبرى 3/3
… تناولت في الحلقة الاولى التغييرات الدراماتيكية في اثيوبيا وكيف انها جذرية ومنتوج شعبي قابلت تطلعات الشعب الاثيوبي وقواه السياسية كما مثلت عهد جديد لكافة المعارضة الاثيوبية فقبلت التغيير وعادت الى بلادها للاسهام في المناخ الديمقراطي الذي اوجدته ثورتهم الشبابية وتراكم نضالاتهم ودماء شهدائهم ، عهد انعتاق جديد بزع في اثيوبيا، يمثل مركز اشعاع للديمقراطية في المنطقة. ومهما يكن من بروز مشكلات هنا أو هناك في الدولة الاثيوبية الجديدة فلا تمثل تهديدا لاستقرار البلد طالما الارادات السياسية والثقافية واصحاب الرأي ورجال الدين والحكومة جميعهم موحدون ومتفقون فانهم قادرون على احتواء واخماد المشكلات والتوترات.
سوف تبسط القيادة الجديدة في اثيوبيا برامج الثورة من المساواة والعدالة والديمقراطية واطلاق الحريات الواسعة والفضاء الاعلامي الواسع والمتنوع وتشكيل الاحزاب السياسية المختلفة واستنهاض غالبية السكان الذين ظلوا عبر العقود بعيدين عن المشاركة في السلطة وفتح الفرص لتكاملهم الاقتصادي والاجتماعي، هذا المناخ الحر في دولة مثل اثيوبيا بسكانها المتجاوز المئة مليون نسمة يؤثر بشكل مباشر على المنطقة وخاصة ارتريا كون ارتريا واثيوبيا تربطهما صلات ثقافية ووشائجية بين القوميات الارترية (الكناما ، التجرنيا والعفر) هذا فضلا عن اصول ومنابت بعض القوميات الارترية وجذورها التاريخية يرجع الى اثيوبيا.
هذه العلاقات المتداخلة بين الشعبين كانت جامدة على مدى عقدين ولكن عملية السلام بين الدولتين التي اعقبت الثورة الاثيوبية حركت الجمود ونفخت الروح في تلك العلاقة وبدأت مسيرة جديدة من التفاعلات بين دولة مؤسساتية ودولة ديكتاتورية خاوية من اي نمط من انماط حكم القانون. ان عملية السلام توسع التواصل الاجتماعي والاقتصادي والتجاري الحر والمنافع المتبادلة وسينفتح شبعنا على الساحة الاثيوبية وعلى مشاهد الاعلام الحر الاثيوبي الذي سيملأ الفراغ المعتم في ارتريا والحياة الحزبية المفتوحة وتدافع الاحزاب السياسية والمحاكم المستقلة التي يمثل امامها الوزراء والفاسدين وكبار الشخصيات وسيعزز السلام الثقة وتنشأ العلاقات التجارية وتتوثق الروابط العائلية وتتقارب الامزجة وتتراجع وتختفي التصورات الخاطئة لدى كل طرف وتتعزز الثقة وتنشأ علاقات اكثر تجذرا وتقاربا فتتحد الامزجة بالاتصال المباشر بين الشعبين ويتوازن الضغط السياسي بين الدولتين تماما مثل الضغط الاسموزي الذي يزيل الغشاوي بين مستوى ضغطين ويوازن بينهما. كل هذا التأثير الايجابي سيجتاح ارتريا االخاوية سياسيا واعلامها المقيّد المكبوت وحاكمها الديكتاتوري المستبد تمثل للشعب الارتري اعظم فرصة ليس فقط للخلاص من الديكتاتورية بل الوصول الى مستوى التأثير ونقل نفس المشهد السياسي الى ارتريا. ان الالهام الذي ستمثله الحياة السياسية في اثيوبيا يخلق مؤكدا حالة من “ارادة المعرفة لميشيل فوكو” والتي تمثل قوة وطاقة كامنة تبحث عن التفريغ . يقول كارل ماركس” ان الفقر لوحده لا يصنع ثورة ولكن الوعي بالفقر هو من يصنعها” وهو نفس معنى فوكو. حيث الوعي عند ماركس والمعرفة عند فوكو يمثلان ارادة وطاقة مكتسبة تتمظهر وتتبدى باصلاحات سياسية بمستوى الوعي والمعرفة المكتسبة.
ان كل مدخلات التأثير الآتية من الساحة الاثيوبية من احزاب سياسية متصارعة واعلام مستقل حر ومحاكم عدلية وتجارة مفتوحة واتصال اجتماعي مباشر يمثل “المتغير المستقل” الذي لا يمكن تحديد مداى وقوة تأثيره على المتغير الثابت. كما في الدالة ” ص= د(س) y=f(x)، حيث س هي المتغير المستقل الذي يؤثر بشكل مباشر وبعدد المتغيرات والمدخلات التي يمثلها على المتغير الثابت (ص) والذي يمثل في حالتنا النظام الارتري”. ان الثورة الاثيوبية هي ثورة شعب لصالح شعبين وضد نظامين توأمين وسوف تحدث نفس التغيير في البلدين. ان الاتصال المباشر الذي يصاحب عملية السلام بين البلدين هو الاتصال بين شلال هادر وقحل منخفض. ارتريا امام اصلاحات سياسية كبيرة تتوقف سرعتها بسرعة وتيرة التواصل بين البلدين وسرعة تثبيتها في اثيوبيا. ان السلام بين ارتريا واثيوبيا يمثل بالنسبة الينا الذراع الذي عجزنا عن ايجاده عبر تنظيماتنا السياسية المختلفة للتغيير. هذا فضلا فإن عملية السلام في ذاتها اوقفت اراقة الدماء وادخلت السرور في قلوب آلاف من اسر الشباب المرابطين في الحدود كما اعادت التئام الاسر والعوائل في الحدود في مشهد انساني لا يمكن وصفه. ان السلام سيأتي بما عجزنا الاتيان به وهو الاصلاح السياسي و… السلام الداخلي… وغيره . كثيرة هي الاعمال التي يجرم فيها النظام الارتري ولكن ان نقول انه عمل سلام أو زرع وردة فأمر لا يلام عليه وهو يشبه صدى الكلام الضحل الذي يردده من تأذوا من السلام ومن صدقهم لا غير.
وفي الحلقة الثانية تناولت مطامع الوياني وكيف منهجها وخططها كان يتسق واستراتيجيتها الرامية الى اقامة “تجراي الكبرى”. علينا ان نعلم جيدا ان قوة التجراي ما زالت كامنة وامكاناتهم المأهولة من الاموال والعتاد والقواعد العسكرية مقتدرة. ووقفنا على شكل تعاملها مع الشأن الارتري ” المعارضة والحكومة” وادركنا كيف تتم عملية تفريغ الشعب من قيمه ومشتركاته وكيف هي آليات التدمير وتوسيع الهوة بين مكونات الوطن الواحد وفنون النفخ في اوداج القبلية والقومية وعبادة الذات لتنفصل بمشاعرها ووجدانها عن الوطن وتتغرب عن مكوناتها، كما شاهدنا ولادة وعي جديد وكيف يسبك خطاب خلق ونشوء امة جديدة ” تجراي الكبرى”. لم يكن يتبقى للوياني الا خوض حرب لا تكلفهم الكثير من الخسائر واحتلال عصب واعلان دولتهم. ولكن لم يخطر ببالهم قط الحراك الشعبي وشباب “القيرو” الذي لا يمكن القضاء عليه أو هزيمته. لقد ضربتهم الثورة لكنها ليست ضربة قاضية. وصدمت اتباعهم ومريديهم في ارتريا واصبحوا يرددوا شعارات ليس لهم بها صلة ، ولم ينادوا بها يوما عندما كانوا يلتقطون الصور مع رئيس الوزراء ملس زيناوي على نحو: لا سلام قبل ترسيم الحدود بين البلدين ، وارتريا اصبحت تباع الى اثيوبيا …الخ. وهم يعلمون يقينا ان تجراي هي من ترفض ترسيم الحدود ولا تذعن لقرار رئيس مجلس الوزراء ولا تريد السلام بين ارتريا واثيوبيا. لقد اصدرت الوياني بيان تنتقد فيها رئيس الوزراء بتاريخ 14 يونيو بعد الاعلان عن السلام مع ارتريا واستعداده للانسحاب من الارضي الارترية المحتلة. وقد طالب البيان عقد جلسة طارئة لتنفيذية الحزب الحاكم ولكن تم اهماله، فنظموا مظاهرة مليونية في مدينة مقلي ضد السلام وترسيم الحدود بين البلدين ليرهنوا ارادة البلدين السياسية، ولما رأوا ان بيانهم ومظاهراتهم وهتافهم عواء في خواء حشدوا نفس تلك الجموع لتهتف تأييدا للسلام بتاريخ 28 يونيو اي بعد اسبوعين في مظهر يؤكد عمودية الشعب وقوة المجتمع وتماساكه.
لم تخضع قيادة تجراي التي حكمت اثيوبيا الى اي محاسبة أو ادانة للجرائم التي الحقتها بالشعب الاثيوبي أو تحميلها مسؤولية الاخفاق السياسي حتى ندوات التقييم التي عقدت بتجراي وبحضور نخبة معتبرة من ابنائهم لم تلق المسؤولية والفشل على القيادة بل العكس من ذلك ان بعض من تلك القيادات كانت ترأس جزءا من مدالات الندوات وتلقي بالمسؤولية على الآخرين. هذا يعني ان تلك لقيادة ما زالت هي المسؤولة عن شأن تجراي السياسي المتضخم بالاموال والعتاد وهي نفسها رائدة مشروع ” تجراي الكبرى” بل بعض من المنظرين امثال البروفيسور (أبرها دستا) – استاذ العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في جامعة مقلي – قال مطمئنا الحضور ان تجراي سوف لن تكون مغلقة في حلقة ترأسها بمعية ” قيتاشو ردا ” علما ان اقليم تجراي اقليم مغلق بمختلف القوميات ما لم ينفتح على البحر الاحمر ضمن استراتجية تجراي الكبرى!. وبكل الحسابات فان مستقبلهم السياسي في اثيوبيا أو مستقبل شعبهم في وسط شعوب اثيوبيا اصبح صعبا ان لم يكن متعذرا مما يعزز مخاوف الاستيلاء على القرار السياسي في ارتريا والهيمنة عليها واقامة دولتهم القومية وهذا أجدر لهم واسهل من الاذعان للحكومة المركزية وقبول ما نسبته ال 6% (نسبة التجراي في اثيوبيا) فقط من نصيب الشعب الاثيوبي سوءا في البرلمان أو السلطة او الثروة.
هذا التيار المتطرف في تجراي له عدو يتربص للقضاء عليه وهو النظام الارتري بقيادة الرئيس اسياس افورقي ” لست متأكدا بغيابه لربما يأتي رئيسا من اتباعهم او من اشياعهم” وعدو آخر هو النظام الاثيوبي الجديد لجهة ان هذا التيار يمثل له الدولة العميقة. هذا التيار القومي المتطرف يجب ان يستأصل وتكسر ارادته (وارتريا ما زالت محتفظة بتنظيم دمحيت التجراوي المسلح) وإما ان يمثل هذا التيار اامام المحاكم الشرعية ويتوارى عن المشهد السياسي.
تراجع دور النظام الارتري دون القضاء على هذا التيار المتطرف أو عدم قيام مؤسسات دستورية في ارتريا قادرة على تمثيل ارادة الشعب الارتري وصون وحدة شعبه وكيانه السياسي فإن ارتريا يمكن ان تصبح في دائرة نفوذ هذا التيار.
هذا التقاطع في المصلحة الوطنية مع النظام – اي كان هدفه من معاداة الوياني ولكن قطعا ليس من اجل الحفاظ على وحدة وكيان الشعب الارتري – يجب ان يعتبر نقطة مهمة يجب تأكيدها وستغلالها سياسيا واعلاميا من اجل سد الثغرة التي ينفذ من خلالها رواد التجراي تجرنية والاقازيان واستغلال مآسي الشعب الارتري وغضبه لصياغة خطاب سياسي مفاده ” قف على نقيض ما يقف عليه اسياس “. صحيح المفترض للحفاظ على الوطن وسلامته يجب ان تتوفر مؤسسات الدولة ونظام ديمقراطي يقرر فيه الشعب على كيانه ووحدة اراضيه وما وصل اليه الشعب الارتري اليوم تعتبر مأساة انسانية وليس وطنية فقط جراء سياسات الحكومة ولكن يجب ان نتعامل مع الواقع اليوم كما هو وليس على الينبغيات والمفترضات.
هذه المرحلة الحرجة من مراحل الشعب الارتري تلقي علينا التركيز على اهدافنا (الحفاظ على الوطن من الانقسام والهيمنة المحتملة والاصلاح السياسي المنظور في الافق). وعلينا التموضع جيداً في المكان المناسب وتحسين خطابنا السياسي والتفاعل مع المتغيرات والاحداث سياسيا علينا التفاعل بالقبول والرفض والاستحسان لما يجري لكل خطوة تتقدم نحو اهدافنا والى مصالح شعبنا كالترحيب بعملية السلام بصورة مطلقة ” وليس بالتردد والاستدراك ب لكن ..الخ” علينا تحذير الوياني من مغبة الشروع في تقسيم ارتريا والتأكيد على الوقوف مع النظام للحفاظ على سلامة الوطن كما علينا تناول هؤلاء الذين يتسللون عبر المعاناة واستغلال الفرص للمضي في مشروع التفرقة، علينا رفع عقيرتنا عالية باننا مع السلام ومع علاقات تكامل مع دول القرن الافريقي وعلاقات شراكة استراتيجية مع الاقليم الذي تربطنا به صلات ثقافية ومنافع تجارية تنهض بالاقتصاد الارتري وترفه شعبنا ، كما علينا الترحيب بافادات نائب وزير الخارجية للشؤن الافريقية بشأن ارتريا وحثه بذل المزيد من اجل تحسين ملف حقوق الانسان. ولابد من تضمين خطابنا السياسي دوما معاناة شعبنا وغياب المؤسسات الدستورية والسجل السيء لحقوق الانسان الارتري و…الخ.
ان النظام الارتري الآن لم يكن وحيدا كما كان واصبح جزءا من استراتيجيات دولية ودخل في شراكات مع دول اقليمية تعتبر نفوذ متقدم للدول الكبرى وتتكلف مليارات الدولارات ومحاولة التلاعب والتغريد خارج السرب او تعريض المصالح الى الخطر غير مقبول.!
هذا المناخ العام والمتغيرات تقوم مقامنا في االاصلاح السياسي. ومالم نستطع ان نقوم به نحن اصبح في متن المتغيرات التي بعثها الله لنا فعلينا التعبد بالدفع بها الى الامام على اقل تقدير.
الزاوية او النافذة التي انظر منها الى الاحداث في المنطقة ولدت هذه القراءة ، وان تتبع نفس مسار الاستقراء لربما يفضي بتقريرات اعمق من الذي تناولت لكن مشكلات الترادف بين المظالم التي يتعرض لها الشعب الارتري منذ الاستقلال وما يمكن اعتباره بوارق أمل في مضمار الاحداث يلقي المزيد من التحفظ والتعقيد تجاه الاخلاص للفكرة.
Awate Forum