ارتريا : نحو الاصلاح السياسي أم تجراي الكبرى (1/3)
امري لله … سأقول رأيي.
هذا المقال وما يليه من اجزائه الثلاث ربما يخترق بعض المفاهيم السائدة ويتشابك مع بعض الاراء في الساحة، وتقصد هذه المقالات دفق بعض المعلومات والحقائق الموضوعية لأتخذ منها زادا ابرر به موقفي وحكمي على مسار الاحداث واتجاهاتها في ارتريا. وانشد حوارا يكبح جنوح تصوري نحو المضي الى اليقينية كما انشد حوارا يعضد هذا التصور ويؤيده بتوسيع دائرة القراءة والاستشراف الذي ازعمه في جزئه الثالث. سوف اتناول الاحداث في اثيوبيا وتأثيرها الايجابي والسلبي على ارتريا ، واتناول السلام بين الدولتين والاقليم كما اتناول المواقف السياسية والفرص والتحديات.
نحن نعيش مرحلة انقلابية هامة في حياة شعبنا والمنطقة والتعاطي بخفة ذهنية وانطباعية ثاوية في وعينا الداخلي واطلاق احكام ثابتة على احداث متحولة ومتسارعة تعبر عن جمود في الساحة وقحل في الآراء ، كما ان الاحكام الجاهزة على متغيرات جديدة لا تنصف المرحلة ولربما تكون احكامها ونتائجها كارثية.
ليس هنالك مواقف ثابتة، وبناء المواقف نتيجة فعل الخصم باتت سمة تميز وعينا وتحدد تموضعنا من الاحداث. وهذه المتلازمة اوجدت مثقفأ سليب الارادة وقراره مرهون دوما عند الفاعل.
ان المواقف التي كانت بالامس صحيحة عندما تلقح بمتغيرات تتحول الى مواقف جديدة ذات خصائص مختلفة تستدعي حكما جديدا كذلك. ان أكثر الفرص ضياعا هي تلك الفرص لاحداث تحمل في متنها الصواب والخطأ والسلبية والايجابية وتحتاج الى نقاش وعصف ذهني مسؤول لتنقية وفرز وتحديد الارجحية فيها وتقديمها كحزمة من المواقف العاملة في الساحة.
تشهد منطقة القرن الافريقي حراكا تاريخيا محوره اثيوبيا ومركزه عمق سكاني تمثله اكبر القوميات الاثيوبية – الارومو- التي تمثل اكثر من نصف سكان اثيوبيا. تعرف اثيوبيا بمتحف القوميات وعلى كثرة تلك القوميات الا ان السلطة لم تؤل يوما في التاريخ الاثيوبي الى اي منها ماعدا قوميتي الامهرية والتجرنية وهما قوميتان تعيشان في الشمال الاثيوبي بالرغم من انهما لا تمثلان معا اكثر من ثلث سكان اثيوبيا. وتسببت حالة عدم تداول السلطة وعدم اشراك الغالبية العظمى من الشعب في العملية السياسية ادى الى حالة عدم استقرار وحروب في الهامش كما ان قوميتي التجرنية والامحرية ومكايداتهما ضد بعضهم البعض زاد من عدم الاستقرار في البلاد. ولا اجانب الحقيقة اذا ما زعمت ان عدم اشراك الغالبية من الشعب الاثيوبي الذي يمثل قرابة ال %80 دليل للظلم والاضطهاد للنخب السياسية المتعاقبة على حكم اثيوبيا.
يقول البروفيسور جون ماركاكس استاذ التاريخ الاثيوبي لسبعة وعشرون عاما في جامعة اديس ابابا في كتابه:Ethiopia : The last two frontiers ” اثيوبيا : آخر الحدين “يقول ان اثيوبيا لا يمكن لها ان تستقر أوتشهد تحولا سياسيا يفضي الى العدالة الاجتماعية ونظام ديمقراطي مستقر مالم تأتي تعمل على تطبيق احد الحدين الاخرين الذين تبقيا لانقاذها وهما، حد الانقاذ الاول: التكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين سكانها Social and political and economic integration حيث يشير الى ان معظم سكان البلاد معزولون من أي تكامل اجتماعي وسياسي واقتصادي. وان التاريخ الاثيوبي انحصر عبر العقود على سكان المرتفعات ” التجراي والامحرا بحسب تعبيره” واذا ما ارادت اثيوبيا الخروج من مآزقها والنجاة عليها ان تحدث شراكة سياسية واقتصادية وتطوير اجتماعي لغالبية سكانها.
والحد الأخير الثاني المتبقي لانقاذها هو:سكان المنخفضات الاثيوبية (Lowlanders) أي الارومو وبقية سكان المنخفضات الاخرى كغالبية عظمى وعمق سكاني كبير واذا ما شاركوا بكتلتهم السكانية وعمقهم السكاني الكبير أو آلت اليهم السلطة السياسية فان اثيوبيا سيتم انقاذها وسوف تستقر.
في المحاضرة التي دشن فيها كتابه المذكور هنا في لندن قبل اكثر من خمس سنوات كان البروفيسور ماركاكس يتحدث بيقين العالم بأن اثيوبيا سوف لم ولن تستقر مالم تأخذ باحد حدود الانقاذ التي اقترحها. وأكد بيقين العارف بأن سلطة التجراي سوف تزول كذلك تبعا للتسلسل التارخي وصيرورة تحولاتها السياسية مما اغضب وفد السفارة الاثيوبية المكون من قومية التجراي في تلك الامسية وجادل الوفد البروفيسور لهذا التنبؤ المشؤوم وقالوا بانهم بسطوا السلطة في عملية اشراك كبيرة في اثيوبيا ولكن الدكتور ماركاكس كان اعلم بتأريخ اثيوبيا اكثر منهم ويعلم تفاصيل الحياة السياسية وهيمنة التجراي على مفاصل الدولةز وقال ان تاريخ اثيوبيا ودراساته تقدم له صورة واضحة بان سلطتهم ستزول طالما الاستقرار منتهى حتمي ستصل اليه البلاد حالما تم تطبيق احد آخر الحدين.
لقد كرر رئيس الوزراء الاثيوبي المستقيل الدكتور هيلي ماريام دسالن نفس المعنى في المقابلة التي اجراها في هراري مع جريدة Daily Maverick الجنوب افريقية الاكترونية في عددها الصادر في 14 اغسطس 2018م بأنه لم يستطع الاصلاح الاقتصادي والسياسي عندما كان رئيسا للوزراء حيث جميع محاولات الاصلاح التي تقدم بها كانت توأد من قبل حزب تجراي المهيمن على السلطة وعلى الائتلاف الحاكم EPRDF وانه اي الدكتور دسالن لم يستطع فرض اصلاحاته كونه ينتمي الى قومية صغيرة والى الاقليم الجنوبي الذي يتكون من 56 قومية متعددة ومتفرقة. واردف قائلا بان اثيوبيا كانت في حاجة الى حاكم ينحدر من قومية كبير مثل الارومو من اجل فرض الاصلاحات والاستقرار.
جاء الدكتور ابي احمد الى رئاسة مجلس الوزراء ممثلا لحراك شعبي واسع قدم الألاف من الشهداء والاسرى والمعتقلين وثورة بدأت بتطهير داخلها مما وصفتهم بعملاء الوياني وأخذ تهتف داخل اقاليمها لتقتلع هؤلاء االمسؤولين لذين يمثلون مصالح الوياني . لم ترم بمظالمها على الآخرين ولم تغفل عن مظالمها الداخلية فبدأت بعملية تطهير لممثليها في اقاليمها وفي البرلمان وفي الائتلاف الحاكم وهتفت ضدهم بأنهم لا يمثلونهم وانهم اكثر عداوة وشرا من الآخرين عليهم، فأصبحت الكتل المؤتلف تتهاوى وتستقيل الشخصيات الكبيرة من الاقاليم ومن البرلمان ومن الحكومة المركزية وعندما وصلت الى نقطة مركزية حددتها قيادة الثورة الراشدة والحكيمة وادارت العملية بفكر خلاق، عندها انتقلت الى المرحلة الثانية بعقد مؤتمراتها في الاقاليم المختلفة لتقوم باسقاط رموز العمالة والتبعية وتصعيد من يمثل وجدانها ومصالحها السياسية ، وهكذا وصلت الى حالة التناغم والانسجام بينها وبين قيادتها وقدمت من يمثلها ال45 عضو في الائتلاف الحاكم EPRDF وهي العملية التي شكلت دلالة قوية لل TPLF بانها فقدت سيطرتها ونفوذها في ثلثي اثيوبيا وفقدت حكم اثيوبيا. ! بل الجرائم التي احدثتها والقتل والتنكيل لألاف الشباب المتظاهرين طيلة الثلاث اعوام الماضية احدث جرحا عميقا في نفوسهم فاصبحت الوياني والتجراي مرفوضة وسط ذلك العمق السكاني الكبير وتلك الاقاليم الواسعة. هذا الابداع الخلاق الذي قاده شباب متعلم في الداخل والخارج عبر اعلام واعي مكثف وعمل سلمي في الشارع سلّ اقلية التجراي من اكثر من نصف اثيوبيا وبدأ العد التنازلي لعهدهم يدلف خلفهم الباب ليفتح التاريخ الاثيوبي صفحة جديدة ويلج الى عهد جديد. كان سهلا لاقليم الامحرا ” الخصم التاريخي للتجراي ” ان يحدد اين يقف ، من الاحداث ومن انتخاب رئيس الحزب ( رئيس الوزاء ) بعد اللقاءات والاتفاقات التي ابرموها بينهم (ارومو والامحرا) هكذا اتت نتيجة التصويت لانتخاب رئيس الحزب (45 ارومو +45 امحرا + 18 من الاقليم الجنوبي) لينتخب الدكتور ابي احمد ب 108 اصوات مقابل 65 صوتا حيث كانت كتلة التجراي ناقصة والباقي ال27 هو عدد من تبقى لهم من “الاصدقاء ” في الاقليم الجنوبي.
الدعم السكاني الكبير الذي يحظي ب الدكتور ابي احمد من قبل الارومو وقومية الامحرا لوحدهما يشكلان اكثر من 80 مليون نسمة من اجمالي السكان البالغ ال 107 مليون هذا بالاضافة الى التيار الوطني العام (Mainstream) وكل النخب الفكرية والمثقفين ورجال الدين وجميع وسائل الاعلام التي كانت تعارض والاحزاب السياسية المسلحة منها والمدنية التي سعى الى الالتقاء بها في داخل البلاد وخارجها وناشدها العودة الى البلاد والعمل من الداخل حاملا شعار ” ندمر” – اي نتزايد – واطلاق سراح عشرات الألاف من السجناء والمعتقلين ، كل هذه الثقل السكاني والزخم السياسي والتأييد الشعبي والنخبوي الواسع والتفاعل الواسع مع شعاراتها واهدافها ، كلها حقائق ودلائل موضوعية تجذر التحول وتؤكد ثباته واستمراريته. وتنال على استحقاق اسم الثورة حيث اطلقت الحرايات الصحفية والاعلامية واعتقت عشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين وسعت وراء المعارضة في الخارج لتوقع معها التعهدات وتتواثق على الديمقراطية والعدالة والتداول السلمي للسطة في حياة سياسية حزبية واسعة تقوم على اساس المواطنة وتدعوها العودة والعمل من الداخل وتصالح بين المذاهب والاديان. وبالرغم من ذلك يحلو لبعض النفر وبمعايير مختلفة ولغرض لا يصعب فهمه دمغها بانها هرتقة وصبية يُفّع يلهون بالسياسة.!
لم يغفل قادة التحول التاريخي في اثيوبيا (Team Lama) ان ثورتهم لا يمكن ان تستقر وتمضي قدما في تحقيق اهدافها ومراميها وهي محاطة بدول معادية يمكن ان تشكل عدم الاستقرار في الهامش وفي الاطراف، فبادر رئيس الوزراء الاثيوبي بتسييج بلاده بحزام امني حول حدودها ، فقام بزيارة الى جيبوتي والسودان والصومال وجنوب السودان ومصر وارتريا عقب الاعلان عن قبول تطبيق اتفاق الجزائر ورسم الحدود بين البلدين وزار اسمرة واعلن عن بدء مرحلة جديدة من العلاقات بين اسمرة واديس ابابا.
Awate Forum