تعتمد حكومة الإنقاذ في الخرطوم، معايير مزدوجة في علاقاتها الخارجية، ودائماً ما تلجأ إلى تطبيق مبدأ ” الإيد اللي ما تقدر تعضها، بوسها وادعي عليها بالكسر”
فالنظام الذي يستأسد على مواطنيه ويتوارى عن الأعداء، دائماً ما تجده يتغاضي عن تجاوزات الغير خاصة إذا كان هذا الغير قوياً، ويهاب أفعاله، كما كان الحال مع القذافي أو حسني مبارك أو حتى الدكتاتور أفورقي الذي يعيش عزلة دولية وإقليمية وسدت في وجهه كافة المنافذ ولم يجد أمامه سوى المنفذ السوداني الذي يطل من خلاله على العالم، بعد أن وجد الحضن الدافئ في حكومة الإنقاذ المنبوذة أصلاً على المستويين الداخلي والخارجي.
علاقات الشعبين الإريتري والسوداني أزلية بل ضاربة في العمق، نظراً للامتداد القبلي على جانبي الحدود، فنفس القبائل في إريتريا هي نفسها في الجانب الآخر من الحدود، والأسرة الواحدة تجد فروعها منتشرة على ضفتي البلدين، وهذا ما تجلى ملياً أثناء فترة الكفاح المسلح للشعب الإريتري الذي لجأ جله إلى السودان ووجد الملاذ الأمن وسط أهله وشعبه، وهو جميل لن ينساه الإريتريين، وترجمه الشعب إلى واقع بعد التحرير، فكان السوداني ولا زال يقابل بالترحاب أينما حل، بعد أن شرع الإريتريين أبواب منازلهم لاستقبال الضيف العزيز، عرفان ورد للجميل، هذا فيما يتعلق بعلاقة الشعبين.
ولكن.. للإريتريين مآخذ كثيرة وغضب عارم تجاه حكومة الإنقاذ التي سخرت إمكانياتها لخدمة الديكتاتور أفورقي دون أن تحصل على مقابل، فهذا المجرم الذي أذل شعبه وأذاقه الويلات ومارس ضده القمع والتنكيل الممنهج بمباركة ومساندة حكومة الخرطوم، هو نفسه الذي أدار لها ظهره وأعلن صراحة العمل على إسقاطها مدفوعاً بتوجيهات من الولايات المتحدة أيام كان ابنها المدلل، وهو نفسه أيضاً من سلم سفارة السودان في أسمرا للتحالف المعارض، في سابقة هي الأولى في العرف الدولي، بل زود قوى المعارضة السودانية بالسلاح وشجعها على مهاجمة السودان عبر حدود بلاده، وكان آخرها الاعتداء على مدينة كسلا عام 2000م ، فضلاً عن الهجمات والاعتداءات المتكررة التي شهدتها القرى والمناطق الحدودية السودانية على مدى فترة التوتر التي سادت علاقة البلدين، فضلاً عن تآمره على وحدة تراب السودان وتبنيه وجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان في المحافل الدولية واحتضانه لعناصرها وتسليحه لها، علاوة على تدخله في قضية دار فور وتأجيج نارها، كل هذا لحقد الدفين ضد السودان وشعبه.
الشعب الإريتري الذي ناضل وقاتل على مدى 30 عاماً لنيل استقلاله، سعد كثيراُ بتحرير أرضه من نير الاستعمار، واعتقد لوهلة أن الدنيا أقبلت إليه بنسائم الحرية وتباشير الغد المشرق، إلا أنه سرعان ما صدم بنظام دكتاتوري فاشي، كتم على أنفاسه وجعله يترحم على أيام الاستعمار بمرارتها، لأن الإنسان الإريتري في ظل النظام الوطني الاستبدادي عان أكثر مما عانى أثناء فترة الاستعمار، فنظام الشعبية الذي استفرد بالحكم فشل في بناء دولة ديمقراطية تجمع كافة شرائح الشعب، بل بات طارداً لشعبه حتى بلغ عدد من غادر بلاده مرغماً أيام الحكم الوطني أكثر بكثير من غادرها هرباً من اضطهاد المستعمر.
فدولة الحزب الواحد في إريتريا، ظلت تفتعل الحروب المستمرة والتوترات السياسية مع جيرانها للخروج من مشاكلها الداخلية، وأيضا لإضفاء الشرعية على ممارساتها القمعية ضد مواطنيها بحجة الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية في وجه الأطماع الخارجية وهي ممارسات يدفع ثمنها المواطن الإريتري المغلوب على أمره.
إريتريا في الواقع تعيش خارج الزمن منذ الاستغلال قبل عقدين تقريباً، ففي دولة الحزب الواحد كما أسلفنا.. لا دستور ولا قانون أو برلمان منتخب أو غير منتخب أو حتى مؤسسات، فالكلمة النهائية للرئيس، ومن يعارض سلطة الحاكم فمصيره القتل أو الزج في غياهب السجون الظاهر منها أو تلك التي تحت الأرض وما أكثرها، ما دفع بالمواطنين بكافة شرائحهم إلى الهروب خارج الحدود سواء إلى السودان أو أثيوبيا وحتى جيبوتي إن أمكن، وتشمل شريحة الفارين جنود من كافة القطاعات، مسؤولين كبار في الدولة وقيادات عسكرية ومواطنين عاديين نساء وأطفال، ويسلك هؤلاء ما تيسر من سبل ويفقد الكثير منهم أرواحهم في رحلة الهروب نتيجة لتعرضهم لإطلاق النار من زبانية النظام المنتشرين على امتداد الحدود، ومن حالفه الحظ ونفد بجلده تتكفل الأجهزة الأمنية للإنقاذ بإعادته إلى جلاده على الجانب الآخر من الحدود، ليكون مصيره التصفية الجسدية وكان آخرها ما تعرضه له نحو 300 مواطن من تنكيل وقتل بعد إعادتهم من السودان قسراً، رغم مناشدات جهات حقوقية عدة خشية تعرضهم للبطش والتنكيل، إلا أن حكومة الإنقاذ لم تعر هذه المناشدان أية اعتبار، وسلمت من استجار بها ليتم إعدام عدد منهم فور إعادتهم مباشرة.
وهنا أستدل بتجربة الناشط السياسي والقيادي في التحالف الوطني السوداني أمير بابكر عبد الله الذي عاش معاناة شديدة الصعوبة في معتقلات أفورقي، وصور يومياته في سراديب سجن ” أدر سار ” في الغرب الإريتري، وهو معتقل تحت الأرض يديره رجال سلبت الرحمة والإنسانية من قلوبهم، همهم الأول هدر كرامة الإنسان الإريتري وكسر شوكته وإخضاعه، وأطلق الراوي على معتقله “الغولاغ الإريتري” نسبة لرواية “أرخبيل غولاغ” للشاعر والمؤرخ الروسي المنشق سولجينتسين الذي قضى فترة من عمره في معسكرات ومعتقلات العمل القسري في سيبيريا أبان فترة الاتحاد السوفيتي سابقاً، وصور فيها قسوة الحياة داخل تلك المعسكرات، وأدعو المهتمين إلى قراءة مذكرات الأخ أمير بابكر على الشبكة العنكبوتية، وكشف فيها معاناة المعتقلين الإريتريين داخل سجون النظام المنتشرة داخل المدن وعلى أطرافها وحتى في المناطق النائية والصحراوية وداخل الكهوف.
حكومة المؤتمر الوطني بقيادة البشير تقترف أخطاء فادحة في حق الشعب الإريتري الذي يكن للسودان وشعبه كل الحب والمودة، ولكنه قطعاً سوف لن ينسى تحالف الإنقاذ مع الطاغية أفورقي، الذي استخدم في السابق كافة الوسائل لإسقاط نظامه وجاهر بذلك قولاً وفعلاً، وها هي الإنقاذ تكافأ من أساء لها بالأمس، بملاحقة الفارين من جحيمه وإعادتهم قسراً من حيث أتوا، ضاربة بالعرف والمثل والقوانين الوضعية والسماوية عرض الحائط، ولكنها حتماً ستكوى بنيران هذا النظام القمعي الذي لا يراعي التحالفات ولا المعاهدات وغداً لناظره قريب.
Awate Forum