محـاولة لفـض الإشـتباك
جاء الإنسان على مر التاريخ بأيدولوجيات متعددة لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع منها ماهو ذو صبغة دينية والأخر دنيوية ، وجميعها ذات علاقة مباشرة بطبيعة الإنسان و أسلوبه في الحياة ، والغاية منها هو الإرتقاء به إلى حياة أفضل مليئة بالخير والسعادة . فكانت هنالك إجتهادات كثيرة في هذا المنحي بدء بأساطين الفكر اليوناني ثم الروماني والمسيحي فالإسلام ، بالإضافة إلي بعض الأفكار التي لاقت روجاً في العصر الحديث كالماركسية والديمقراطية.
في الوقت الحاضر إنحصر الفكر السياسي في أمرين إثنين هما الإسلام والديمقراطية. وكثيرأ ما يقع البعض في اللبس عند المقارنة بين الإثنين لمعرفة نقاط التلاقي و الأختلاف بينهما. يقول فهمي هويدي الكاتب الإسلامي المعروف: أن المقارنة متعذرة من الناحية المنهجية، بين الإسلام الذي هو دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، وبين الديمقراطية التي هي نظام للحكم وآلية للمشاركة وعنوان محمل بالعديد من القيم الإيجابية. وهذا الإختلاف لا ينبغي أن يحمل بمعنى التضاد أو الخصومة، حيث يظل مجال الإتفاق قائماً في بعض القيم الأساسية والمثل العليا، لكنه ينبغي أن يفهم في إطار التنوع والتمايز.
موقف المسلمين – ليس الإسلام- من الديمقراطية يمثل بؤرة مهمة مسكونة بالإلتباس، إذ هو مثقل بعبء التاريخ إلى حد كبير، وتلعب الذاكرة دوراً حاسماً في إثارة الشكوك والهواجس، وربما الرفض والإتهام أيضاَ.
فالديمقراطية عند البعض في زماننا لا ينظر إليها كنظام للحكم يقوم على الحرية والمشاركة السياسية والتعددية، وغيرذلك فحسب، وإنما كرمز لمشروع غربي مارس القهر والذل بحق الأخرين، ويعكس خطابه الإعلامي على الأقل عداءً ظاهراً للإسلام. ومن ثم فإن إنكار الديمقراطية من جانب هؤلاء لا ينبغي أن يحمل بإعتباره رفضاً لذاتها، ولكنه في حقيقة الأمر رفض للمشروع الذي تمثله. ويؤكد البحث الذي نشر للباحثين الغربيين همان جو أسبوزيتو وجيمس بسكاتوري بعنوان (الديمقراطية والإسلام) حيث ذكرا في البحث أن بعض الجماعات الإسلامية شجبت الإسلوب الغربي للديمقراطية ونظام الحكم الذي أدخله البريطانيون في بلدانهم، وكان رد فعلهم السلبي هو في حقيقة الأمر تعبيراً عن رفض عام للنفوذ الإستعماري الأوروبي، ودفاعاً عن الإسلام ضد زيادة الإعتماد على الغرب، بأكثر منه رفضاً إجمالياً للديمقراطية(1).
إذا كان فهم أية مشكلة هو نصف الطريق إلى حلها، فإن ذلك الفهم إذا ما توفر في مسألة الإشتباك بين الإسلام والديمقراطية، سيكون كفيل بفتح الطريق أمام الحل. إذن علينا تحرير الموضوع أولاً، من خلال إثبات تصور الإسلام لبناء الدولة السياسي، لنكون على بينة من حقائق الموضوع، حيث تتعذر مناقشة أي قضية بينما كل واحد يفهمها بصورة مغايرة للأخر.
ركائز الدولة الإسلامية:
ويمكن تحديد سبع ركائز للدولة الإسلامية هي:
1- الولاية للأمة:
الأمة هي صاحبة الإختيار ورضاها شرط لإستمرار من يقع عليه الإختيار، فالأمة هي صاحبة الرئاسة العامة، وحدها لها حق إختيار الإمام ، ولها عزله، أي إنهاء العقد وفسخه – فهي المبتدئة له- وهي المشرفة عليه وصاحبة الحق الأول فيه(2).
2- المجتمع مكلف ومسؤول:
إقامة الدين وعمارة الدنيا ورعاية المصالح العامة من مسؤولية الأمة وليس السلطة فقط (3). آية ذلك أن الخطاب القرآني يتوجه بخطاب التكليف في مواضع عدة إلى الأمة: ( يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط ) سورة النساء الآية (135)، ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) سورة آل عمران الآية (104).
3- الحرية حق للجميع:
ممارسة الإنسان لحريته هي الوجه الأخر لعقيدة التوحيد، ونطقه بالشهادتين بمثابة إعلان عن عبوديته لله وحده، وإنعتاقه من أي سلطان لأي واحد من الناس. وأهم ممارسات الحرية، هي تلك التي تتم على صعيد الإختيار والرأي،ف( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..) سورة البقرة الآية(256). وحرية الإعتقاد ترتب حرية القول، التي لا يقيدها في التفكير الإسلامي سوى قيد واحد، هو ألا يكون الرأي طعناً في الدين أو خروجاً عليه، حيث يعتبر ذلك إنتهاكاً للنظام العام للدولة (4). ليس الأمر مجرد إباحة للتعبير عن الرأي، وإنما يرقى الأمر إلى مستوى الوجود عندما يتعلق الأمر بإعلان كلمة الحق، حيث تعتبره النصوص الشرعية إثماً يستوجب العقاب في الأخرة، بحسبانه سكوتاً على منكر واجب النهي عنه شرعاً.
4- المساواة بين الناس في الأصول:
إن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، وجميعاً لهم الحصانة والكرامة التي يقررها القرآن للإنسان، بصفته تلك، بصرف النظر عن ملته أو عرقه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى معنى وحدة الأصل الإنساني في خطبة الوداع:( ألا وإن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد) وفي القرآن الكريم🙁 يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن اكرمكم عند الله أتقاكم.إن الله عليم خبير) سورة الحجرات الآية(13).
5- الأخر-المختلف- له شرعيته:
منذ أن تقررت وحدة الأصل الإنساني، وثبتت الكرامة لكل بني الإنسان في الخطاب القرآني، إكتسب الأخر حقه في الحصانة والشرعية، لمجرد كونه إنساناً. فحين وقف نبي المسلمين توقيراً لجنازة ميت، قيل له إنه يهودي،فإنه رد قائلاً:أليست نفساً؟. وعندما وجه الإمام علي بن أبي طالب رسالة إلى واليه على مصر، مالك الأشتر، فإنه قال له: وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم وااللطف بهم.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
إن صدر الإسلام الذي لم يضق بأي دين اخر، لا يتصور له أن يضيق بالرأي الأخر، ومن ثم فإجازة التعدد في الدين، تجعل القبول بالتعدد في أمور الدنيا أجوز! حيث شرعية الإختلاف في العقيدة تفسح المجال بالضرورة للإختلاف في مناخ الإصلاح الإجتماعي والسياسي.
6- الظلم محرم ومقاومته واجبة:
الظلم في المفهوم الإسلامي ليس من أكبر المنكرات والكبائر فقط، ولا هو مؤذن بفساد العمران فقط كما قال أبن خلدون، ولكنه قبل هذا وذاك، عدوان على حق الله، وإنتهاك لقيمة العدل، التي هي هدف الرسالة والنبوة. ففي الحديث القدسي: ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا.وكبح الظلم من أسباب توجيه الخطاب الإلهي، الذي نزل:( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) سورة هود االأيتان (118-119). وأباح الإسلام القتال لرد الظلم🙁 أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير) سورة الحج الأية (39).
هذا الإلتزام العقيدي لمقاومة الجور في ظل الدولة الإسلامية، لا نظيرله في أي نظام قانوني أخر.إضافة إلى ذلك فهو بمثابة ضمانة فعالة لتأكيد الرقابة الشعبية، التي لا يحتكم فيها المسلم إلا لضميره الإسلامي ولدستور الإسلام، أي بنظامه القانوني، وكل ذلك بعيداً عن سلطة الدولة الإسلامية وفي مواجهتها(5).
7-القانون فوق الجميع:
شرعية السلطة في الدولة الإسلامية مرهونة في قيامها وفي إستمرارها بإلتزامها بالعمل على إعمال النظام القانوني الإسلامي في جملته، دونما تمييز بين أحكامه المنظمة لسلوك المسلم كمواطن وحاكم. بين تلك القيم الأساسية والأحداث العليا التي وردت في الكتاب والسنة(6).
على صعيد أخر،فإن سيادة الشريعة وخضوع الجميع لها، حكاماً ومحكومين، من شأنه أن ينصب قانوناً أعلى فوق القانون، كما يقيم سقفاً يتعذر إختراقه والعبث به. وإستقلال مرجعية التشريع عن سلطة الدولة ونزوات الحكام، يوفر ضمانة مهمة في مواجهة طغيان السلطة التنفيذية، خصوصاً في دول العالم الثالث حيث تتحكم تلك السلطة في المجالس النيابية وتوظفها لخدمة أهوائها. إن أقصى ما وصل إليه الفكر الدستوري في تجربة العقل الإنساني هو الفصل بين السلطات، وإعتبار التشريع إحدى سلطات الدولة الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبمقتضى ذلك الفصل توفرت إلى حد كبير ضمانة الحد من طغيان السلطة التنفيذية، لكنه لا يعطي ضماناً للحد من طغيان السلطة التشريعية، خصوصاً في الحالات التي يصنع فيها الحاكم القانون، أو يصنع السلطة التي تصدر القانون.
التصور الإسلامي يحل ذلك الإشكال، ويقدم صيغة تحمي الأمة من إستبداد السلطتين التنفيذية والتشريعية، حين ترتفع بالقانون فوق الهوى والغرض.
آليات الرؤية الإسلامية:
إن هذة السمات السبع للرؤية الإسلامية للنظام السياسي، يتعذر بلوغها بغير آليات واضحة، لتهتدي بغايات مرصودة. وعندما يقلب الباحث في الخطاب الإسلامي، بحثاً عن تلك الآليات أو الوسائل، فإنه يدرك أنها ترتكزعلي ركيزتين أساسيتين، هما:
1- الشورى:
يقول أستاذ القانون المخضرم توفيق الشاوي في كتابه فقه الشورى والإستشارة: أن دراسة الشورى كنظرية عامة تبدأ – في نظرنا- بحقوق الإنسان وحرياته وسلطان الإمة وسيادتها. وتؤكد أن حقوق الإنسان في شريعتنا ليست محصورة في حرياته الفردية فقط – حرية الرأي وحرية التملك والتصرف في ماله مثلاً- بل تربط حقه في المشاركة في قرارات الجماعة بحقه في المشاركة في مالها وثرواتها، نتيجة للتضامن الإجتماعي الذي يوجب التكافل ،كما يوجب الشورى(7). وهو يخلص في موضع أخرإلى أن الشورى هي: إشتراكية الرأي والفكر إلى جانب إشتراكية المال(8).
أما النص القرآني:( وأمرهم شورى بينهم) سورة الشورى الأية(38)، فيعني بوضوح أن أمور الأمة الإسلامية ينبغي أن يناقشها كل ممثلي المجتمع- فكلمة(بينهم) تشير إلى المجتمع كله- الرجال والنساء، والمسلمين وغير المسلمين- وتمثيل المجتمع في مجلس الشورى، الذي يمكن أن يحمل أي إسم أخر شريطة أن تظل الوظيفة ثابتة، لا سبيل إلى تحقيقه إلا بالإنتخاب(9).
إن معنى الشورى هو تضامن المجتمع على أساس حرية التشاور والحوار الحقيقي المستمد من المساواة في حق التفكير والدفاع عن الرأي.. من أجل هذا أن يعلن من يؤمنون بالشورى الإسلامية، أنهم عندما يتمسكون بها أساساً للنظام الدستوري في المجتمع، إنما يقصدون أولاً وبالذات ما تفرضه الشورى من توفر الحريات الكاملة للجميع في الحوار وتبادل الرأي بحرية كاملة قبل إتخاذ أي قرار أو بعده(10).
لابد من التنويه هنا بأن ثمة تفرقة بين الإستشارة والشورى. فالإستشارة هي طلب الرأي أو المشورة ممن يكون محل ثقة من الطالب. وطالب الإستشارة هو وحده صاحب الحق في إتخاذ القرار في المسألة التي يطلب الرأي فيها. أما الشورى فهي الوسيلة الجماعية الشرعية التي تصدر بها الجماعة أو الأمة قراراً في شأن من شؤونها العامة.
والإستشارة غبر واجبة، والرأي الذي يبدى لطالبه فيها غير ملزم له. أما الشورى فهي واجبة وملزمة.
2- وجوب مساءلة الحكام:
إن مساءلة الحكام واجب شرعي، تؤثم الأمة وتحاسب أمام الله إن قصرت في أدائه، ففي القرأن الكريم:( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) سورة هود الآية(113)، وفي الحديث النبوي:( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب).
من ثم، فالأمة رقيبة على الحاكم بإستمرار أولاً، بما هي ملزمة به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وثانياً، بما هو واجب لها من حق الشورى. وثالثاً، بما هي مأمورة به من بذل النصح. ورابعاً، بما لها من حق بوصفها الطرف الأول في عقد الإمامة، إذ هي بمقتضى ذلك العقد منحته حق الحكم وأمرته بالسلطة، وماهو إلا وكيل عنها، فلها الحق أن تسأله عن عمله(11).
ولفقهاء المسلمين كلام كثير، شديد الوضوح في إثبات حق قوامة الأمة على حكامها، ومسؤوليتها عن حسابهم إذا ما حادوا عن الطريق السوي، حيث يتعين عليها أن تقوم أولئك الحكام، ولها أن تغزلهم إن لم يكن هنالك بديل أخر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة. ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة، وأن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، ولو كانت مؤمنة. وقال في موضع أخر… العدل نظام كل شئ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الأخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الأخرة(12).
ولا نستطيع أن نحصي النصوص والأثار التي جعلت من العدل قيمة مركزية في الخطاب الاسلامي، فهي تفوق الحصر، حتى لا يكاد يخلو منها كتاب في العلم الشرعي. فمنذ أعتبر القسط – بنص القرأن – هدفاً للرسل والكتب السماوية جمعاء، تقدمت قيمة العدل، بعد التوحيد، وصارت معياراً تقاس به صدقية التطبيق الإسلامي، حيث غدا كل تطبيق يقترب من حقيقة رسالة الإسلام ويبتعد عنها، بمقدار التزامه بقيمة العدل أو إنتهاكه لها. ومن ثم، فقل لي أين أنت من العدل، أقل لك أين أنت من الإسلام!
الديمقراطية:
الديمقراطية كلمة يونانية مركبة من كلمتين معناها حكم الشعب بالشعب. وبدأ النظام الديمقراطي في إسبارطة من بلاد اليونان، ولم يبدأ في أثينا موطن الفلاسفة وأصحاب الدراسات الفكرية أمثال سقراط، إفلاطون وأرسطو.وكانت الديمقراطية في اليونان القديمة من قبيل الإجراءات والتدابير السياسية وسيلة تتقي بها الفتنة، وينقاد بها من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص. ولم تكن هذة الديمقراطية مذهباً قائماً على الحقوق الإنسانية أو متطوراً فيه إلى حالة غير حالة الحكومة الوطنية، ومع ذلك كانت إجراءً مفيداً، وتدبيراً لا محيد عنه لإستقرار الأمن في الدولة(13).
وبما أن روما القديمة كانت تستند على قلاسفة اليونان في البحوث الفكرية، ومنها بحوث الحكومة، فقد إستطاع الشعب أن يحصل على بعض الضمانات التي يعتمد عليها في مراجعة ذوي السلطان، وأصبحت موافقة وكلائه على الأحكام الكبرى لازمة في بعض التعديلات التي أدخلت على الشريعة الرومانية. وبدأت الديمقراطية تتبلور في روما بشكل ما بعد إقتراح بوليبوس لدستوره المختلط الذي يأخذ احسن ما في الحكومات الثلاث الصالحة التي نوه إليها أرسطو(14) إلا وهي:
1- الملكية الراشدة: ملك عادل فاضل (حكم الفرد).
2- الإرستقراطية: حكم القلة الممتازة.
3- الدبمقراطية: حكم الشعب لنفسه تحت مظلة القانون.
وجاء بعده شيشرون الذي شبه الدولة بأنها شركة للمواطنين حق العضوية فيها مكفول للمواطن، وهي توجد لتمد المواطنين بالمساعدات اللازمة مادامت خاضعة لقواعد العدالة(15).
إثر تفكك الإمبراطورية الرومانية تميزت العصور الوسطى في أوروبا بنظام الإقطاع إلى أن جاء القديس توماس الإكويني الذي إعتبر أن الحكومة تقوم قبل كل شئ لغرض أخلاقي، وعلى الحاكم أن يوجه الأفراد إلى كل عمل يؤدي إلى إسعادهم، كما يجب أن تكون لسلطته حدود، وأن يمارسها وفق للقانون(16).
وعندما جمااء الفيلسوف مارسيليو سعي من أجل تحقيق ثلاثة أهداف أولها هو القضاء على السيطرة البابوية، وثانيها تعريف السلطة الدينية، وتحديدها، ومنعها من الإشراف على الحكومة المدنية، أما الهدف الثالث فهو وضع الكنيسة تحت سلطة الدولة(17).
هكذا مر النظام السياسي في أوروبا بمراحل عديدة حتى قيام الثورة الفرنسية. وجدير بالذكر هنا أن نشير إلى ان إعتماد الديمقراطية كأساس ونظام للحكم، كان ثمرة نضال طويل وباهظ التكلفة، خاضه الإصلاحيون والثوريون ضد مختلف قوى التسلط في أوروبا خاصة، سواء تمثلت في النبلاء أو البابوات أو الإثنين معاً.
وميزة الديمقراطية أنها إهتدت خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء إلى صيغ ووسائل تعتبر إلى اليوم من أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. الديمقراطية تستند على الرأي العام، وتكون مسئولة لديه كل أربع أو خمس سنوات، حيث تراجع الحكومة موقفها للتتعرف على مدى سريان التأييد لها من قبل الشعب.
الفوارق بين النظام الإسلامي والديمقراطية:
يمكن تبيين الفوارق في أمور ثلاثة هي:
الأمر الأول: أن المراد بكلمة (شعب) أو (أمة) في الديمقراطية الحديثة كما هي معروف في عالم الغرب، أنه شعب محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة. ولا كذلك الإسلام. فالأمة عنده هي وحدة العقيدة وليست مرتبطة بوحدة المكان أو الدم او اللغة.
الأمر الثاني: إن أهداف الديمقراطية هي لأغراض دنيوية أو مادية ترمي إلى تحقيق السعادة لشعب بعينه، من حيث تحقيق مطالبه في هذة الحياة الدنيا، ترمي إلى إنماء الثروة أو رفع الأجور أو كسب حربي… ألخ. أما أغراض النظام الإسلامي تشمل إلى جانب هذة الأغراض الدنيوية مع إبعاد التحيز العرقي أغراض روحية تبقى هي الأساس الأسمى في الحياة.
الأمر الثالث: سلطة الأمة في الديمقراطية الغربية مطلقة، فهي صاحبة السيادة، وهي التي تضع القانون أو تلغيه متى ما شاءت وكيف ما أرادت ( المجلس ) ، وقرارت هذا المجلس تصبح قانوناً واجب النفاذ والطاعة حتى إذا جاءت مواده مخالفة للأخلاق أو متعارضة مع مصالح الإنسانية العامة. أما في الإسلام فسلطة الأمة ليست مطلقة، وإنما مقيدة بالشريعة. ولا تحيد إرادة الأمة عن الحق أو الإنحراف عن الكتاب والسنة.
من حقنا الإقتباس:
مما سبق قد تبين لنا بأن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها ولكنه ترك التفصيلات لإجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد احوال الإنسان. كما ذكر أنفاً فقد إهتدت الديمقراطية عبركفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين إلى صيغ ووسائل تعتبر من أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حرج على البشرية أن تفكر في صيغ ووسائل أخرى، لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى ان يتيسر ذلك، أرى من حقنا ان نقتبس من مميزات الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشوري وإحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان الحكام.
ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذة الوسيلة حكم ذلك المقصد. ولا يوجد شرعاً ما يمنع إقنباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب بفكرة حفر الخندق، وهي من أساليب الفرس. كما إستفاد من أسرى المشركين في بدر ممن يعرفون القراءة والكتابة في تعليم أطفال المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، إنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الدكتاتورية. كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية ان يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وان يرفض أوامرهم إذا خالفوا الدستور. والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها بإعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في إختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الطلم، ورفض المعصية.
ويكمن الإشارة هنا إلى ان الكثير من الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية شكلاً للحكم، وضماناً للحريات، وصماماً للأمان من طغيان الحكام، على ان تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة الشعب، لا إرادة الحاكم الفرد وجماعته المنتفعين به. فليس يكفي رفع شعار الديمقراطية في حين تزهق روحها بالسجون وبالسياط وبأحكام الطوارئ.
وفي الحالة الإرترية نضال الشعب الإرتري نضالأ طويلأ ومريراً من أجل الحرية والعدالة و الديمقراطية إلا أنه بعد التحرير راحت أماله تلك أدراج الرياح بسبب إستحواذ الجبهة الشعبية على مقاليد الأمور، وتحولها إلى نظام دكتاتوري حول البلاد إلى سجن كبير. وبما أن المجتمع الإرتري متعدد الأعراق واللهجات والأديان لذلك لا يمكن تصنيف الأزمة الإرترية على أساس ديني أو مناطقي أو تصويرها على أنها نتاج لصراع خفي بين المسلمين والمسيحين أو بالأحرى بين سكان المرتفعات والمنخفضات – فالظلم واقع على الجميع بلا إستثناء – ومن ثم التفكير في حل سحري يسمى الشراكة. إعتقد بأن هذا التحليل ليس في محله، وبان المشكلة لا تكمن لا في الدين ولا في الجغرافية، وإنما هي ذات طابع سياسي بحت.
أود أن أؤكد بأن الشعب الإرتري من خلال مسيرته النضالية أصبح شخص جماعي تاريخي واحد إمتلك هوية وطنية إرترية كانت دافعاً قوياً لإنتزاع حقه في تقرير المصير بالقوة. وهذا الشعب ليس في حاجة إلى شراكة بينية، وإنما في حاجة إلى من يعي مطالبه. فالشراكة في الغالب تجري بين أطراف ذات مصالح تنافسية. وفي حالة الشعب الإرتري ليست لديه لا مصالح متنافسة ولا متناقضة ولا متصارعة حتى يفكر في الشراكة. وإنما مصلحته واحدة وإرادته واحدة ودموعه واحدة، وكانت فاتورة التحرير أيضاً واحدة. فهو شعب تعاقد للعيش سوياً ودفع الظلم سوياً وإنتزاع النصر سوياً.
القارئ الكريم الشعب الإرتري اليوم في أمس الحاجة إلى الديمقراطية لتحقيق هدفه في الحياة الكريمة ودفع الظلم والطغيان والتخلص من جبروت النظام الحاكم. وقبل رفع هذا الشعار علينا التخلص من مرارات الماضي وتجاوز الخلافات بوضع المصلحة الوطنية فوق كل المصالح الفئوية والحزبية ونبذ الإقصاءات و إحترام الأخر وتوحيد الصفوف وزرع الثقة ومد الجسور بين كل دعاة التحول الديمقراطي.
أخـر الكلام:
لأ أستطيع أن أنهي بدون الإشارة إلى أهمية تضافر الجهود للإرتقاء بالعمل المعارض إلى مستوى تحديات المرحلة ووضع الخيار الديمقراطي كسبيل وحيد لإنقاذ البلاد والعباد. أرجو ان تكون هذة السطور المتواضعة قد حاولت فض الإشتباك أو إزالة بعض اللبس بين الديمقراطية الإسلامية – إذا صح التعبير- وبين الديمقراطية الغربية.
الهوامش:
(1) جون اسبوزيتو وجيمس بسكاتوري، الديمقراطية والإسلام، ميدل إيست جورنال، المجلد 45، العدد 3، 1991م.
(2) محمد ضياء الدين الريس، النظرية السياسية الإسلامية، ص 217.
(3) محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام، ص116.
(4) محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص215.
(5) محمد طه بدوي، مبحث في النظام السياسي الإسلامي، في مناهج المستشرقين، مكتب التربية العربي لدول الخليج بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ج2،ص127.
(6) المصدر نفسه، ص125.
(7) توفيق الشاوي، فقه الشورى ةالإستشارة، ص29.
(8) المصدر نفسه، ص30.
(9) العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص179.
(10) محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة،ص440.
(11) الريس، النظرية السياسية الإسلامية، ص339.
(12) أبوالحسن المارودي، أدب الدين والدنيا،ص119.
(13) د. أبراهيم البلولة، محاضرة حول الديمقراطية في بلاد اليونان، جامعة إفريقيا العالمية،2006م.
(14) د. صلاح الدين الدومة، المدخل إلى العلوم السياسية،مطبعة جي تاون، الخرطوم،ص66.
(15) المصدر نفسه،ص71.
(16) جوليان فروند، ماهي السياسة، ترجمة يحي على أديب،وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1981م، ص92.
(17) د.بطرس غالي و د. محمد خيري عيسى، المدخل في علم السياسة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1984م،ص75.
للتواصل: jamalsaleh44@yahoo.com
Awate Forum