صِمْدو : مبادرة للسلام، أم مناورة سياسية؟
لا يختلفُ عاقِلان حول حاجة الشعوب والبلدان للسلام. فهو ليس محض خيار بل ضرورة ملحة للحياة البشرية على وجه هذه البسيطة. السلام أساس الاستقرار والازدهار والنماء، وتحت ظلاله تُحفَظ للإنسان سلامته وأمنه وتُصان كرامته. فالحروب تُدمِّر ولا تَبني.. تُخرِّب ولا تُعمِّر.. تأخذ من دماءِ الناس وتشربها شُرب الهِيم ولا تروي عطشها.
وفيما يبدو أنها دعوة لترميم النفوس وتجاوز آثار ما خلفته حرب 2020 الدامية في إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا، برزت مبادرةٌ تحت مُسمى (صِمدو*) أي التحالف/الائتلاف حاملةً رسالة سلام وتسامح ومصالحة شعبية، وساعيةً -وفق القائمين عليها- إلى رأْب الصدع بين الشعبين الإريتري والتيغراوي. وقد حفزّت سُكّان المناطق المحاذية للحدود من الجانبين الإريتري والإثيوبي إلى التواصل والتلاقي في حشود نُظِّمت احتفاءً بالسلام ودعمًا له.
فالمبادرة تؤكد في خطابها أنّها تسعى لتأسيسِ أرضيةِ سلام بين الشعوب لا بين الأنظمة السياسية. ومن خلال هذا المنظور، تُحاول تخطِّي الواقع السياسي المعقَّد، وتراهن على الذاكرة الشعبية التي أنهكتها الحروب. فهي تدعو إلى التسامي فوق الجراح لا إنكارها بل الاعتراف المتبادل بآلامها، والسعي إلى مستقبلٍ مَبنيٍّ على الرغبةِ والحاجة ِللسلامِ كقيمةٍ إنسانيةٍ مشتركةٍ لا على المصالح الضيقة أو الحسابات السياسية المتغيِّرة.
بَيْد أن هذا التوجّه الطموح لا ينبغى له أن يتجاهل عُمق التحديات الماثلة، لاسيَّما التوتر بين الحكومتين الإريترية والإثيوبية، الذي طرأ مؤخرًا رغم تطبيع العلاقات بينهما بموجب إتفاقية جدّة للسلام والصداقة التي وُقعت في سبتمبر 2018م نتيجة نجاح الدبلوماسية السعودية في إنهاء قطيعةٍ تجاوزت العقدين من الزمان بين الدولتين الجارتين.
كما تُشكِّل حالة التشابك والغموض في ملف العلاقة بين إقليم تيغراي والحكومة الفيدرالية في (أديس أبابا) تحدٍ آخر يواجه التقارب الشعبي الذي تنشده المبادرة، يُضاف إليه هشاشة الوضع السياسي في إثيوبيا واستمرار النزاعات المسلحة بين المركز وبعض أطرافه. ولذلك، يمكن القول بأن طريق السلام والمصالحة الشعبية ليس مفروشًا بالورود ولا يخلو من عوائق.
غير أنّها، ورغم تعليتها راية السلام، تجد المبادرة نفسها أمام جملة من التساؤلات والمواقف المتباينة، بين مؤيدٍ يرى فيها بارقةَ أمل، وآخر يشكك في نواياها وخلفيات إعلانها في هذا التوقيت. وما بين التأييد الحذِر والارتياب المشروع، ترى أصواتٌ إريترية وتيغراوية في المبادرة بداية مسار إنساني يُمكنه أن يُسهم في تخفيف المعاناة ويفتح البابَ أمام تعاونٍ اقتصاديٍ وتواصلٍ إجتماعي، وعبَّرت أخرى عن تحفظاتها وهواجسها، سواء من منطلقاتٍ سياسية، عرقية، جهوية أو من شكوكٍ في جدواها. كما رأَى البعضُ أنّها مجرّد محاولة لتجميل صورة أنظمة استبدادية، دون معالجة الأسباب الحقيقية للصراع، أو الاعتراف بالأضرار التي لحقت بالشعبَيْن.
وبالنظر إلى كيفية إدارة شؤون البلاد والعباد في منطقتنا، فقد نلتمس العذر لمن يرى أن المبادرة غير منزهةٍ عن بُعدٍ سياسي تقف خلفه (أسمرا) و(مغلي)، وأُريد لها أن تخرج للعلن عبر واجهةٍ مدنيةٍ لتمرير رسائل عِدة دون تَحمُّل التبعات مباشرة. ويُمكن قراءة ذلك في سياقِ تنسيقٍ مصلحي طارئ، بين الحكومة الإريترية وقادة إقليم تيغراي، فرَضه قلقهم المشترك من (أديس أبابا)، خاصةً بعد استمرار وتصاعد لهجة مطالبات (أبيي أحمد) بمنفذ بحري على شواطئ البحر الأحمر، وتجاهله المناشدات بإعادة مناطق غرب تيغراي إلى إدارتها الأصلية كجزءٍ من أراضٍ تابعةٍ للإقليم.
وفي التقدير، قد يكون تنامي لغة السلام والمصالحة بين الطرفين، إريتريا وتيغراي، وترحيب زعيم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي/ دبرصيون قبرمكائيل بالمبادرة وقوله بـ ”ضرورة توسيع نطاقها لتشمل شعوب العفر، الأمهرى والسودان“، قد يكون مؤشرًا إلى رغبةٍ في هندسةِ تقاربٍ سياسيٍ تحت مظلةٍ مجتمعيةٍ تُشَغِّل أدوات التواصل الشعبي لتليين المواقف وتهيئة الأرضية لتحالفٍ مرحلي تُملِيه الضرورات. وما اللقاءات والحشود الشعبية التي جمعت سُكّان جانبَيْ الحدود بين إريتريا وتيغراي إلّا محطة من محطات هذه المبادرة وأداة من أدواتها.
وانتهازًا للفرصة السانحة، رأَى مؤيدون وفاعلون في المبادرة من أبناء تيغراي في الوجود العسكري الإريتري في أجزاءٍ من أراضيهم، والحصار الاقتصادي على الإقليم من قبل المركز، استمرار معاناة إنسان تيغراي، ما يجعل تجاوبه مع دعوات المصالحة والسلام رهنًا بمدى صدقية الأطراف، وقدرتها على تخفيف معاناته الملموسة قبل الخوض في حوار نظري حول السلام والتعايش.
في المحصلة، أحسبُ أن (صِمْدو) ليست مجرد مبادرة مدنية أو انفعال شعبي عاطفي، بل انعكاس لتشابك معقد بين تطلعات الشعوب ومصالح الحكومات. فهي تثير أسئلةً جوهريةً: هل يمكن أن ينبثق سلامٌ شعبيٌ حقيقي من رَحمِ اصطفافٍ سياسيٍ مؤقت؟ وهل يفضي التحالفُ الظرفي إلى مصالحةٍ حقيقية؟، أم يتحول إلى استراحةٍ تكتيكيةٍ تسبق جولة صراعات أخرى؟
الإجابات ليست سهلة، لكنها مرهونة بمدى استقلالية المبادرة عن حسابات الأنظمة، ومدى قدرتها على بناءِ ثقةٍ نابعةٍ من الواقع لا من البيانات والشعارات. المصالحة الناجحة تحتاج لوعيٍ جمعيٍ مشترك ومتبادل بين الأطراف المتصالحة لتجاوز التأريخ، دون محوه.
وبما أن الواقع السياسي في بلدان القرن الأفريقي يتسم بتداخلِ المصالح الإقليمية والدولية، وبتقلُّبِ التحالفات، وبتفوُّقِ الاعتبارات الأمنية القُطْرية على فُرصِ التنمية وتبادل المنافع وحُسن الجوار.. فإنّ مبادرة (صِمْدو)، في هكذا سياق، تكتسب أهمية خاصة ليس بوصفها مشروعًا للسلام فحسب، بل أيضًا كمؤشرٍ على تطور تفكير النُخب والناشطين في مجال المجتمع المدني في المنطقة إزاء ضرورة تخفيف التوتر المُزْمِن بين الشعوب، وبناءِ مساراتٍ بديلةٍ عن منطقِ المكايدات السياسية المُفضِية إلى مواجهاتٍ مسلحة.
إن اختيار مسار الحوار الشعبي – مبادرة (صِمْدو) أُنْموذجًا – وإن كان في مراحله الأولى، يشي بتغيّر في المزاج الشعبي، بوجود جيل جديد من الأصوات التي تؤمن بإمكانية تجاوز أحكام الماضي ومرارته. ومع ذلك، يبقى سؤال المصداقية حاضرًا، ولا يمكن التغاضي عنه دون تفكيك ما إذا كانت هذه المبادرة بالفعل تمثل قناعة مستقلة وصادقة، أم أنها امتداد لمناورات سياسية ترمي إلى إعادة التموضع في لحظة تاريخية فارقة تمر بها المنطقة.
ما بين الأمل الحذِر والارتياب المشروع، تظل (صِمْدو) مبادرة تستحق المتابعة والرصد والمساءلة، لا الاحتفاء الأجوف أو الرفض المطلق. فقد تكون بداية لتأريخ مختلف، إنْ صدقت النوايا وهُيّأت لها الأسباب، وقد تنقلب إلى فصلٍ إضافيٍ من التوظيف السياسي إنْ طغت عليها المصالح الضيقة والمماحكات السياسية بين الحُكَّام. والمؤكد، في الحالة الأخيرة، إنّ الشعوبَ لا الأنظمة، هي مَن سيدفع الثمنَ إنْ أخفقت هذه الفرصة، أو جرى توظيفها بطرقٍ لا تعبِّر عن جوهر تطلعاتها.
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
* (صِمْدو/ጽምዶ): مفردة بلغة (التيغرينيا)، وتعني اِقتران أو تَعاضُد طرفين من أجل توحيد جهودهما للعمل سويًا. ويقابلها في المصطلحات السياسية: التحالف أو الائتلاف.
Awate Forum