Awate.com

ما صنعه المصريون سيقلب الموازين رأسًا على عقب

بقلم: زين العابدين محمد علي “شوكاي”

عبر المصريون وغير المصريين عن أنفسهم بهذه الكلمات عند حدوث الثورة المصرية: “مصر …. ثورة شعب، مصر…. الشعب ينتصر، مبروك يا أهل مصر، ألف ومليون و70 مليار مبروك…. تعيش مصر العروبة، هنيئًا لشعب مصر، مصر مقدمة على مرحلة جديدة …في السابق كنا نحتفل بتحرير الأوطان … الآن نحتفل بتحرير العقول والإنسان…. شبابنا ليسوا همجيين، إنهم جيل جديد صنع هذه المعجزة…. الذي حدث ممتاز وفوق التوقع والخيال….. نريد دولة قائمة على الإنسان وكرامته…….. سيبدأ المصري منذ الآن على صنع مستقبله وتعمير بلاده….. الشباب الذين صنعوا هذه الثورة قادرون على صنع معجزات أخرى أيضًا …. هنا في ميدان التحرير صنع المصريون ثورتهم التي انتشرت كالنار في الهشيم في كل مدن، وقرى، وكفور مصر…… تكاتف قوى الشعب المصري صنع هذا الانتصار…. الحكم الآن لإرادة الشعب القادر على صنع مستقبله…… اليوم بدأ المصريون شبابًا وصبايا، رجالاً ونساءً، أطباء ومهندسين ومحامين، بتنظيف الساحات والميادين والشوارع والمباني في مختلف أنحاء مصر”.

في اليومين التاليين لانهيار نظام مبارك تحت مطارق ولا أقول مطالب الشعب المصري كان إحساسًا جميلاً أن أجلس لأكتب عن انطباعاتي وتجاوبي مع هذا الحدث التاريخي الجبار الذي أوقف وشل تفكير الاستراتيجيين وتوقعاتهم، ناهيك عن تخطيطهم، في كل من واشنطن ولندن وتل أبيب وبروكسل وغيرها من العواصم التي يعتقد أصحاب القرار فيها أنهم المسؤولون عن التخطيط، وما على الآخرين إلاّ أن يتكيفوا مع ما يخطط لهم في هذه العواصم وتلك الدوائر التي نتمنى من الله أن تدور عليها الدائرة، وما حدث في مصر الآن هو في قناعتي بداية الدائرة لتطويق الكثير من تلك الدوائر والمعوقات التي كانت تقيد الشعب المصري، والشعوب العربية وغيرها من شعوب الدول النامية في أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية.

ما ذا كانت المفاجأة فيما حدث في مصر؟ ما حدث في مصر فاق كل التوقعات التي كانت ترسم في تصوراتها سيناريوهات توحي بأن الأمور سوف تسير بشكل منطقي معين، وبالخروج عن هذا المسار قُلِبَت المفاهيم رأسًا على عقب، وهنا بإمكاني أن أضرب مثالين على تلك التوقعات التي كان الدارسون والأكاديميون وواضعو السياسات والاستراتيجيات يتوقعونها لمصر، وكان أغلب ما فيها تفكير رغبي للدوائر الغربية بأن تسير الأمور على النحو الذي يريدونه. المثال الأول: حضرت قبل عامين ندوة كانت قد نظمها المعهد العالي للدفاع في السويد، وتحدث في الندوة شاب ألماني متخصص في الشؤون المصرية، وقال بثقة عالية، ويقين العارف ببواطن الأمور، بأن السيناريو الوحيد والمتوقع لمصر في فرصتها على أن يحكمها حاكم مدني هو عن طريق التوريث، وهو أن يرث ابن الرئيس المصري جمال مبارك السلطة عن أبيه في انتخابات أشبه بالانتخابات التي تأتي الآن بوالده في السلطة، ولا توجد أية إمكانية أخرى لمصر غير هذا الطريق. بدا الحضور الذي كان أغلبه غربيًّا في تلك الندوة مستغربًا لكن نقص المعلومات الدقيقة عن الشعب المصري جعلت المحاضر والحضور غير قادرين على قراءة القوة الأخلاقية والمعنوية التي تكمن في عمق هذا الشعب العظيم الذي يستعصي على الغربي البراغماتي الذي يؤمن بعناصر القوة الظاهرة أكثر بكثير من إيمانه بعناصر القوة الكامنة في الشعوب العربية والإسلامية، رغم أن التاريخ فاجأهم في عدد من البلدان ولأكثر من مرة، في إيران، وأفغانستان، والصومال، والعراق، وغيرها، لكن وكما وصف الدكتور عزمي بشارة الغربيين أن ذاكرتهم قصيرة الأمد. استفزتني كثيرًا تلك اليقينية التي تحدث بها الشاب الألماني الذي تم تقديمه باعتباره من أفضل المختصين في الشؤون المصرية.

بحكم ترددي الكثير على مصر لأسباب عائلية كثيرًا ما كان يعتريني يأس من تغيير حقيقي يأتي بنهضة لمصر التي كنت دومًا أتمنى لها الخير الذي أتمناه لشعبي في إرتريا. لكن سرًّا عميقًا في أعماق أعماقي كان يمنحني الأمل ويهمس في أذني أن هناك عملية عميقة الجذور ومخفية عن أعين المراقبين تدور خارج إرادة ومراقبة الدوائر الاستخباراتية، وحساباتهم وتوقعاتهم وحدود معارفهم، خارج سياق المفاهيم والتخطيطات التي يضعونها، خارج معايير ومقاييس منظومتهم القيمية، التي تعتمد في أغلب الأحوال “المعايير العلمية الصارمة” التي لا تعترف بل تزدري قيم الآخر ومعارفه ومعاييره، ولا تقيم لها وزنًا أو اعتبارًا، هذه المنظومة التي ظلوا لعقود طويلة يزدرونها هي التي أذهلتهم وشلت تفكيرهم في ميدان التحرير وميادين وساحات أخرى على امتداد أرض الكنانة، حتى لو أنها استفادت واستخدمت أحدث ما وصلوا إليه هم من تقنيات، دون أن تخدم مصالحهم الضيقة، التي يعتقدون أنها فوق كل المصالح والقيم.

المثال الآخر الذي استفزني كثيرًا يتعلق بمقال قرأته في إحدى الصحف السويدية خلال أيام الثورة المصرية، وكتبه مدير المعهد السويدي لشؤون الأمن وسياسات التنمية، سفانتي كورنيل، الذي تحدث فيه هو الآخر بثقة وأستاذية واضحة أن الثورة المصرية لن تأتي بالديمقراطية لشعب مصر لعاملين وهما غياب ثقافة الديمقراطية وغياب المؤسسات الديمقراطية التي يقوم عليها النظام الديمقراطي. ومع إقرارنا بأن الديمقراطية ثقافة ومؤسسات، إلاّ أن الطرح الذي تقدم به صاحب المقال يعطي للثقافة والمؤسسات الديمقراطية صفة غيبية أو ميتافيزيقية لا تتحقق أو تتأتى لبعض الشعوب والثقافات هكذا ودون أي ذكر للمبررات، كأن يقول مثلاً إن العملية الديمقراطية طويلة الأمد وصعبة وتستغرق زمنًا طويلاً لكنها قابلة للتحقيق. ولذلك ذكرت في البداية أن الكثير من التفكير الغربي في تحليله لما يحدث في مصر وغيرها تفكير رغبي لا يستند إلى تحليل واقعي، الأمر الذي يؤكده كاتب المقال المذكور الذي يتخبط فيه مرة بالتخويف من الإسلاميين ومرة أخرى بالتخويف من خرق اتفاقية السلام القائمة بين مصر وإسرائيل، في إشارة واضحة إلى أن اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية تحظى بأهمية قصوى لدى كاتب المقال تفوق كثيرًا أهمية التغيير الإيجابي الذي يمكن أن ينتج عن الثورة المصرية لشعب مصر بعيدًا عن كل المزايدات التنظيرية. هنا لا أقول إن رفض ما يحدث في مصر هي صفة ثابتة لدى الغربيين، فهناك قوى ومراكز وشخصيات غربية أبدت تعاطفًا قويًّا مع ثورة الشعب المصري، وخرجت جموع منهم في مظاهرات مؤيدة لها، كما كان هناك عرب ومسلمون رسميون وغير رسميين ممن تمنوا لهذه الثورة أن تنكسر، بل هناك من تآمر عليها في وضح النهار.

من متابعاتي الشخصية لما كان يحدث من تطوير لأدوات النضال في الثورة المصرية يمكن أن يقال إنه كانت هناك عملية إبداعية يومية تنمو وتتطور مع التحديات التي كانت تواجه تلك الثورة. كنت شخصيًّا كثيرًا ما أخشى على الغد في كل يوم كان يمر، وكانت حيرتي تتبدد مع كل صباح عندما كانت الثورة المصرية، والشباب القائم على هذه الثورة، يبدعون أساليبهم النضالية التي كانت تفاجئ القاصي والداني، وعلى رأسهم سلطة مبارك، وحتى المعارضة السياسية المتمثلة في الأحزاب التقليدية التي كان صبرها ينفد أحيانًا وتقترب في أطروحاتها من النظام، والرامية إلى إجراء تسوية، بخلاف مطالب الثورة التي كانت في أغلبها واضحة ومحددة وصارمة وبسيطة. إن من أهم عوامل نجاح هذه الثورة في نظري كان وضوح أهدافها التي مكنت من التفاف قطاعات واسعة ومتنوعة من قطاعات الشعب المصري حولها، باعتبار أن أغلب شعاراتها كان ينصب في هموم ومشكلات المجتمع المصري، بخلاف الكثير من التظاهرات والعصيانات المدنية التي سبقتها والتي كان يختلط فيها الحابل بالنابل فيما يتعلق بتحديد الأهداف المراد تحقيقها، والشعارات المعبرة عن تلك الأهداف. والآن وبعد سقوط نظام مبارك نرى أن مطالب المتظاهرين لم تفقد بوصلتها، بل يطالب المتظاهرون المجلس العسكري الذي سلمه مبارك السلطة، في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، وبجدول زمني محدد يتم فيه تسليم السلطة للمدنيين في خطوات واضحة ومحددة. يتفق الجميع ربما على أن ما حدث في مصر، رغم خصوصية التفاصيل التي جرت عليها الأمور، كان تجاوبًا لضرورات محلية خاصة، استلهمت مما حدث في تونس نموذجًا لهزيمة الديكتاتورية عبر الإصرار على العصيان المدني حتى لحظة سقوط النظام. هناك بالتأكيد مخاوف حقيقية من الالتفاف على الثورة في كل من مصر وتونس، لكن آفاق نجاح الثورة المصرية تبدو أكثر وضوحًا مما يحدث في تونس التي تبدو أن المساومات فيها أخذت منحى آخر. القائمون في مجلس أمناء الثورة المصرية يقظون حتى لا يتم الانقضاض عليهم وعلى ثورتهم، ومتشبثون بمطالبها، لكن الأيام القادمة كفيلة بالكشف عن المزيد من التفاصيل. هذه الثورة المصرية المباركة كشفت وستكشف على مدار الشهور والسنوات القادمة عن حجم المظالم والهدر والاستبداد الذي مارسه نظام مبارك على مدى ثلاثة عقود.

دور مصر العربي والعالمي سوف يتعاظم مع هذه الثورة التي أعادت للمصريين وللشعوب المقهورة في كل مكان من العالم الثقة في أن هناك إمكانية لهزيمة الاستبداد وتحقيق مكاسب حقيقية للشعوب حتى تتمكن من امتلاك قوتها وقرارها. بنفس القوة التي خلقت بها هذه الثورة المصرية المباركة لدى الشعوب المقهورة الأمل لدرجة أنها جعلت الرئيس الأمريكي أوباما يتحدث بتلقائية عن تأثيرها، رغم ما يمكن أن يكلفه هذا التصريح من ثمن في شعبيته لدى البيض الأمريكيين، خاصة لدى أصحاب التأثير منهم، إلاّ أن تلقائية أوباما في تجاوبه مع تنحي مبارك له علاقة بانتمائه العرقي أكثر من علاقته بمنصبه الرسمي، عندما صرح قائلاً إنه سيكون للثورة المصرية تأثير على العالم أجمع. انحياز قناة الجزيرة الكلِّي إلى جانب الشعب المصري قد يخرجها في نظر البعض عن المهنية التي يدعيها البعض، وهي في الواقع مجرد واقع نظري أو افتراضي، إلاّ أن هذا الدور قد سطره التاريخ بأحرف من نور، أذهل الناس جميعًا، والتفسير السطحي عن الدور الذي تلعبه قطر في المنطقة كدولة مناهضة للهيمنة السعودية، وتحاول أن تلعب دورًا أكبر من حجمها، لا يكفي لتبرير هذا الدور الاستراتيجي العظيم الذي تلعبه الجزيرة، والمنحاز لقضايا الشعوب العربية والإسلامية، وحتى لو كان الدافع ذلك فشكرًا لقطر وللجزيرة على هذا الدور العظيم الذي جعلنا نؤرخ به لنقول ما قبل وجود الجزيرة، وبعد ظهورها، والتي أصبح وجودها يمثل أملاً للشعوب المغلوبة على أمرها، ويزعج الكثير من مراكز القوى في العالم العربي، وفي غيرها من الدوائر الغربية التي تتشدق بحرية الصحافة وحرية التعبير، لكنها ظلت دومًا تعبر عن انزعاجها من الدور الذي تلعبه الجزيرة.

بقي أخيرًا الحديث عما يمكن أن تعنيه ثورة الشعب المصري للإرتريين، وانعكاساتها على إرتريا التي لا تقع بعيدًا عنها من الناحيتين الجغرافية والثقافية، في سياق تداعيات هذه الثورة على المنطقة بأجمعها من ناحية، ومن ناحية أخرى باعتبار أن إرتريا هي من الدول التي يعاني شعبها من أسوأ أنواع الديكتاتوريات. لا أعتقد أن هناك ثلاثة إرتريين يجتمعون في أي مكان في العالم ولا يناقشون انعكاسات ما يجري في مصر على بلادهم، خاصة من حملة الثقافة العربية الإسلامية. وفي هذا السياق يتم التطرق بالتأكيد على مكامن القوة والضعف في واقعنا الإرتري لإمكانية إحداث التغيير الذي ننشده كإرتريين، وفي قدرتنا على التفاعل مع المتغيرات التي ستحدث في الواقع السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط، وكنتيجة في منطقتنا في القرن الأفريقي، بعد ثورة الشعب المصري والثورات التي ستعقبها في القريب العاجل إن شاء الله، ومن بينها إرتريا التي يوجد شعبها في أمس الحاجة إلى التغيير أكثر من أي  شعب آخر من شعوب المنطقة، بعد أن تعرض لسنوات من الاستنزاف لموارده، وشبابه، وكرامة إنسانه بشكل يندر أن شهد الإرتريون مثله حتى في حقب الاحتلال الإثيوبي لبلادنا. يبدو أن السيناريو الأقوى في إرتريا هو الانقلاب العسكري بعد أن تم إفراغ إرتريا من شبابها بصورة شيطانية ممنهجة، كما تم إفراغ البلاد من سكانها من المسلمين، مرة بتعطيل عودتهم من مناطق اللجوء بشتى الوسائل، ومرة باضطهاد واعتقال وتعذيب من كان منهم داخل الوطن، حتى يتسنى لإسياس بناء دولة القومية الواحدة، إن لم تكن فيها قوميته هي المهيمنة بشكل كامل، تكون في المستقبل على الأقل سيدة الموقف، وصاحبة المبادرة، والموجهة لدفة الأمور، ربما في ظل ديمقراطية شكلية.

أعود إلى سيناريو الانقلاب لأقول أنه هو المرجح في ظل الأوضاع القائمة في إرتريا اليوم لأسباب عديدة أهمها غياب ثقافة التظاهر والعصيان المدني في المقام الأول، وكذلك بسبب إفراغ إرتريا من أهم عنصر داعم للعصيان المدني، وهو عنصر الشباب، لكني أتمنى في الوقت نفسه أن تكون حساباتي خاطئة فيفاجئنا الشباب الموجود داخل إرتريا على قلته بأنه قادر على تحمل إشعال شرارة التمرد على مثل هذا النظام القمعي، لتفشل كل تقديراتنا، كما فشلت من قبل تقديرات كافة المراقبين بأن شباب مصر غير قادر على إشعال أي ثورة، أو قيادة أي عصيان مدني ضد النظام القائم. المخيف في سيناريو الانقلاب العسكري في إرتريا أنه سوف يكون انتقائيًّا في دعوته لقوى المعارضة الإرترية المنظمة فيشق صفها بإمالة طرف إليه، والتحالف معه ضد الأطراف الأخرى، وإقامة ديمقراطية عرجاء في ظل واقع شعب لا يكن لقواه المعارضة الكثير من التقدير والاحترام في الخارج، ولا يعرفها أساسًا في الداخل، حتى يتمسك بها ويفرضها على قادة الانقلاب العسكري. هذا السيناريو المخيف وإن بدا متشائمًا فهو المرجح عندي شخصيًّا حتى يثبت لدي العكس، وهنا سنشهد مرحلة جديدة من الاصطفاف سيدفع شعبنا ثمنها على حساب نموه واستقراره، وسيتطلب الأمر عقودًا أخرى من النضال لتقويم الاعوجاج الذي سينجم عن الانقلاب العسكري على نظام حكم إسياس

Shares

Related Posts

Archives

Cartoons

Shares